ناسكه عمر، فنانة في السادسة والعشرين من عمرها تقيم في أربيل. تمزج عناصر الطبيعة المختلفة، نباتات، أحجار، وحتى أنواعاً من الحيوانات لتخرج بتحف فنية، أساور، أقراط، قلادات وخواتم غاية في الدقة والروعة. إنها تعتمد في مشروعها الواعد في صناعة المجوهرات التقليدية والاكسسوارات على الحجر وحبات البطم ونقوش بديعة من ميثولوجيا كردستان وميزوباتوميا ومن النباتات البرية. وفي زيارتها إلى موقع المجلة لفتت أنظارنا بقوة إلى إبداعها الجميل ولاحظنا من خلال الصور وبعض النماذج التي أتت بها إلى المكتب أنها ترتقي في سلم الإبداع بهدوء يليق بروحها اللطيفة مثل اسمها وأعمالها فقررنا زيارتها في مشغلها والاطلاع على آخر تصاميمها والتحدث معها للتعرف عن قرب إلى عالمها الإبداعي اللطيف.
تخرجت ناسكه من الجامعة الأمريكية قسم إدارة الأعمال والعلوم السياسية في مدينة السليمانية وتوقع والداها أن تصبح بعد التخرج موظفة في دائرة حكومية أو لدى شركة من الشركات الكثيرة في كردستان مثل العديد من خريجي الجامعات. لكنها اتجهت إلى مهنة بعيدة عن دراستها الأكاديمية وقريبة من روحها. "لقد كان الفن في روحي منذ الصغر". تقول ناسكه مبتسمة. "شعرت منذ طفولتي بأن كل ما يحيط بي من حجر وشجر وكواكب ونجوم تحمل أرواحاً ونستطيع التواصل معها. للحجر لغة وعلينا أن نتقنها" تواصل ناسكه حديثها وهي ترينا حجراً شفافاً بديعا فيه عروق حمراء مثل الدم. تضعه فوق مصباح هاتف الآيفون فيتألق الحجر مثل مجرة في السماء. أرى بهجة طفولية على وجهها. "هذا حجر ينبض بالحياة. فيه روح. هذه العروق تتمدد مع الزمن. تماماً كأحجار الكوارتز". ترى الدهشة على وجهي ووجه زميلي المصور الماهر محمد. تبتسم بثقة وتضيف دون أن تهتم بالدهشة التي بدأت تنمو على وجهينا: "كنت في السادسة من عمري حين سافر أبي ذات مرة. وككل الآباء سألني عن الهدية التي أرغب أن يأتيني بها حين عودته. قلت بدون تردد: أريد أحجاراً يا أبي".
بدأت ناسكه مشوارها الفني بالنقش والرسم على الحجارة. أرتني حجارة بديعة متناسقة الألوان جمعتها في سلة.
"كان عمري وقتها أحد عشر عاماً. وفي الثامنة عشرة افتتحت معرضي الفني الأول في يوم المرأة العالمي بالتعاون مع القنصلية الفرنسية في أربيل. كان ذلك عام 2017. أما العمل في الاكسسوارات ونقشها بالمينا فلم أبدأ به إلا بعد أن صرت في الثانية والعشرين من العمر".
تتحدث ناسكه عن سعيها إلى إشراك الزبائن في خلق تصاميمهم بأنفسهم. تفتح أدراجاً عديدة فيها خرز ملون وخواتم خام وحجارة ملونة وتشير إلى أنها تعطي للزبائن أحياناً حرية اختيار التصميم الذي يفكرون فيه وتقول بثقة:
"إنني أريد عبر هذا الفن أن أفسح مجالاً للناس لكي يستثمروا خيالهم ويقوموا بتنميته. كل البشر فنانين بشكل أو بآخر. فقط يحتاجون إلى دفع".
زميلي محمد ينشغل بالتصوير. يأخذ الزوايا المناسبة لتصوير الأعمال الدقيقة القليلة التي تتوزع في المشغل الصغير بترتيب جميل. يصور ناسكه وهي ترتدي أساورها البديعة التي صممتها، قرطاها الجميلان يتدليان من أذنيها والقلادة على صدرها. المنديل الذي استوحت من نقوشه حجراً للقلائد على كتفيها.
"هذا النقش يظنه الناس صليباً. بينما هو في الحقيقة أحد النقوش التي تزين المنديل الكردي المعروف بـ هِبري_ هَوْري. أحببت أن أعمل مزجاً بين الفن الكردي والمرجان البحري الأحمر" تقول ذلك وتضع حجر القلادة بجانب النقش الأحمر الجميل على حافة المنديل الذي يسمى في بعض الأماكن المنديل الموصلي. فعلاً إنهما متطابقان. يا للجمال.
تلخص طبيعة عملها واشتغالها على العناصر الطبيعية بكلام فلسفي تفوح منه رائحة عشق الطبيعة الأم. تقول بعد أن تأتي لنا بالماء: "كل شيء في هذه الطبيعة التي حولنا يتكلم. سنفهم لغتها لو أجدنا الإصغاء. وأنا أود أن أشرك كل شيء في الطبيعة الكردستانية الناطقة في أعمالي. حبة البطم إلى جانب قطعة الحجر إلى جانب الميثولوجيا والقصص الشعبية. الكون كله يتكلم. وللأجرام السماوية أصوات."
أحدثها عن الفيلسوف الإغريقي فيثاغورث الذي كان يزعم أن لحركة الأجرام السماوية في أفلاكها موسيقى خاصة وأنه يسمعها فتهز رأسها بابتسامة.
يلفت نظري سوار جميل مطعم بنقوش لا تخطئها الذاكرة الشعبية. الألوان والنقوش بديعة. أسألها عن معانيها فتجيب: "هذا نقش كردستاني قبل الإسلام. نقش يهودي المنشأ ما زال يستعمل في صناعة البسط والسجاجيد والوسائد. وقد قرأت عنه في كتاب للفنان الكردي رستم آغاله. قديماً كانت الفتاة حين تعشق شاباً تمنحه قليلاً من شعرها. يأخذ الشاب شعر حيبته إلى صناع البسط ليمزجوه مع صوف الغنم أو شعر الماعز ويصنعوا هذا النقش على البساط. وحين يتزوج الشاب والفتاة يعلقان السجادة الصغيرة على الجدار في المنزل كرمز للحب. رأيت هذا مهماً لأن كثيراً من الفتيات قتلن ويقتلن بسبب الحب. هذه البسط ذات النقوش الرائعة أصبحت مصدر إلهام لي. أخذت هذه النقوش كما هي ووضعتها على الأساور“.
تضيف الفنانة قائلة: "الناس يهتمون بالذهب الأصفر. وهذا في اعتقادي خطاً. الذهب الخالص ومع أنع جميل المنظر لكنه يفتقر إلى اللون. ثم إن الإقبال على الليرات العثمانية (الرشاديات) للزينة تقليد ليس من صميم المجتمع الكردستاني وثقافته. الطبيعة ألوان وما لم يتم إضافة عناصر لونية إلى الذهب فلن يظهر جماله. وأعمالي تعتمد على الستانلس المذهب ومادة المينا بشكل خاص. المينا تضفي جمالاً إضافياً ودفئاً للمعدن البارد".
يمضي الوقت سريعاً. أحاول أن أجمع أكبر قدر من المعلومات عن عملها. أطرح عليها أسئلة ارتجالية يفرضها الموقف ورؤيتي للمزيد من مصنوعاتها الدقيقة الفاتنة.
أسألها عن التسويق وهل تحظى منتجاتها بإقبال الزبائن فتقول: "في البداية لاقيت صعوبة في بيعها. ثم ازداد اهتمام الناس بها. الآن أعمالي معروضة في أربع منافذ بيع في بابل وبغداد وأربيل والسليمانية".
ما مدى اطلاعك على عالم المجوهرات والاكسسوارات العالمية؟ سؤال آخر أطرحه عليها قبل أن يداهمنا الوقت المخصص للمقابلة. يستمر زميلي محمد في التقاط الصور وتستمر الفنانة ناسكه في الإجابة بكل محبة وصبر: "أتابع التصاميم العالمية الشهيرة. الأكثرية بلا روح لأنها لا تنبع من مخيلة فنية حقيقية. تبدو التصاميم متشابهة وكأن المصممين يقلد بعضهم بعضاً. أنا أستلهم التراث الكردستاني. وأريد أن أعطي للفن المحلي الفولكلوري قيمته التي يستحقها. أتمنى أن أعمل على أسطورة شاهماران الكردية وأستلهم نقوشاً وتصاميم من قصص العشق الكردية. إنني أشعر بالمسؤولية تجاه وطني وشعبي. ولذلك أستطيع القول إن هذه التصاميم قريبة لقلبي وروحي. أفكر أيضاً في استلهام تصاميم من بعض أبيات الشعر لكبار الشعراء الكرد. وكذلك تصاميم مستوحاة من الطبيعة الكردستانية بأحجارها ونباتاتها وحشراتها. حتى أنني أنظر إلى شرايين يدي أحياناً فأرى فيها تصاميم بديعة وفناً جميلاً. في أعماق المحيطات ثمة كائنات بحرية بهية المنظر تصلح لكي تصبح نقوشاً على سوار أو في خاتم. بعض النباتات، بأوراقها وزهورها تصبح أفكاراً غنية لتصاميم الأقراط".
ألاحظ في عيني ناسكه شغف الفنان المحترف وابتهاج المفتون بعمله الفني. أتذكر ميشال أنجلو الذي قيل إنه بعد أن أنهى تمثال النبي موسى وضع الإزميل وصرخ: انطق أيها الحجر.
ناسكه، الفنانة الكردية الشابة المقيمة في أربيل، تقول إنها تستمع إلى الحجارة وتفهم لغتها. وليس لنا إلا أن نصدقها. ففي الطبيعة من حولنا كل شيء معقول.
في طريق العودة إلى مكتب المجلة في القرية الإنكليزية، صرت أنظر من خلال نافذة السيارة، التي قادها زميلي المصور، إلى البيوت السكنية الجميلة على جانبي الطريق. كانت بيوتاً مبنية بالحجارة. لم أتكلم. بل صرت أصغي إلى حديث الحجارة.