قبل 250 عاماً، أرسل أحد حكام ولاية شهرزور الكوردية رسالة إلى الصدر الأعظم في إسطنبول مفادها أن هناك الكثير من العلماء والفقهاء ضمن حدود الولاية يجيدون اللغات الأربع، الكوردية، الفارسية، العربية، والتركية، مطالباً إياه بضرورة أخذ هؤلاء إلى مدارس إسطنبول، وبورصة، وأضنة، لأجل المساهمة في تعليم وإعداد طلاب العلم هناك.
وتشهد هذه الرسالة، التي لا تزال محفوظة في الأرشيف العثماني، على أن الكورد هم نقطة الالتقاء لهذه الأمم المهيمنة التي كان لها نفوذ في الشرق الأوسط طوال المائة عام الماضية، وخلال هذه الفترة ظلت المنطقة تدور في حلقة من عدم الاستقرار والتوتر والتعقيد، ولم تشهد أية مبادرة سياسية أو حضارية مقارنة ببقية أغلب مناطق العالم. ويعود ذلك بالأساس إلى غياب تفكير عقلاني وموضوعي في توظيف العناصر المناسبة في المجالات السياسية.
وعلى الرغم من كل المعاناة والمآسي التي حلت بمنطقة الشرق الأوسط، فإن العملية المعرفية والثقافية لم تتمكن بعد من خلق إطار مفاهيمي يدفع بمواطني دول هذه المنطقة إلى الشعور بالانتماء إلى مجال عالمي أكثر شمولاً، والعمل من أجل أخذ العبر والدروس والتجربة من الأحداث السياسية وحالة عدم الاستقرار خلال المائة عام الماضية، وتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الوضع الصعب الذي تعيشه المنطقة، والتي جوهرها عدمُ قبول الآخر ووجود الاختلافات الفكرية والعرقية والقومية.
ومن القضايا التي زعزعت استقرار المنطقة وتطورها خلال المئة عام الماضية هي القضية الكوردية، حيث اضطُهِد الكوردُ وهُمِّشتْ قضيتهم بكل الوسائل والسبل المتاحة، في حين قبِلَ الكوردُ الآخرين برحابة صدر ولم يبادلوهم العداء بالعداء.
ويربط رئيس المركز الكلداني في ميشيغان مصير المجموعات العرقية والدينية المختلفة في الشرق الأوسط، بوجود الكورد في المنطقة، حيث يرى أن المجتمعات المسيحية في العراق وسوريا باقية فقط في المناطق التي تقع تحت سيطرة الكورد ونفوذهم. كما يرى بأن تعزيز تجربة الحكم الكوردي في الشرق الأوسط يمنح المسيحيين والمجموعات العرقية الأخرى في المنطقة الأمل في الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية.
كما يشير إلى وجود القرى والبلدات المسيحية في قلب المناطق الكوردستانية، مما يعني بوضوح أن الكورد اليوم يملكون قوة فكرية وحضارية قادرة على احتضان وقبول المكونات القومية والدينية المختلفة في بلادهم. وهذا الأمر يظهر أقل وضوحاً في عقلية وفكر الدول المهيمنة في المنطقة. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك في انتظارنا كوارث وويلات أكثر خطورة في مستقبل العملية السياسية في المنطقة بشكل عام.
وعلى الرغم من أن العديد من الأحداث غير المرغوب فيها، أصبحت صفحات مشؤومة في ذاكرة مجتمعاتها، فإن هناك العديد من النقاط المشتركة، وهي بمثابة بارقة أمل لبناء خطط واستراتيجيات مشتركة ومتفق عليها، وتربية الجيل الجديد وتنشئته على فكر وثقافة مختلفة تنبذ الكراهية والأحقاد. وجدير بالذكر أن ثقافة التسامح لها جذور عميقة في التاريخ الكوردي والثقافة الكوردية كما يتجلى ذلك في نتاجات المتصوفة الكورد والكتاب الكلاسيكيين والمجتمع الكوردي بشكل عام.
ومن هذا المنطلق ستكون مهمة "كوردستان بالعربي" المساهمة في إعداد نهج يجمع النقاط المشتركة للمكونات، على مبدأ المساواة والتسامح وقبول الآخر وضرورة تلاقح الأفكار والثقافات بما يخدم الإنسانية، بعيداً عن فكر وأسلوب وخطاب محو الآخر المختلف ورفضه وإقصائه. نقول ذلك ونحن نرى أن أربيل، وخلال السنوات العشرين الماضية، أصبحت مركزاً حضارياً كبيراً في العملية السياسية والثقافية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط ككل، مع الحفاظ على توازنها بين كونها مرجعية لقضية قومية عادلة، وأحد صانعي القرار السياسي في المنطقة.