تمتد منطقة كوردستان عبر أربع دول في غرب آسيا، حيث تشكل الجزء الشمالي من العراق وتمتد إلى جنوب شرق تركيا (المعروفة أيضاً بشمال كوردستان)، وشمال سوريا (كردستان الغربية)، وشمال غرب إيران (شرق كوردستان). إن اسمها يرتبط ارتباطا وثيقا بسكانها الكورد، الذين يشكلون أغلبية سكان المنطقة. تتميز كوردستان بتنوعها الثقافي والتاريخي الرائع، وهي مكان للحكم الذاتي معترف به في دستور العراق.
تاريخ كوردستان غني بالأحداث والتجارب، وهي منطقة شهدت صراعات ونزاعات وحروباً، ومع ذلك، استمرت ثقافتها في التألق والازدهار. يعد الشعب الكوردي ذا تراث طويل ومتنوع، حيث أسهم في العديد من المجالات الفنية والأدبية والعلمية على مر العصور.
في العقود الأخيرة، حققت كوردستان العراق إنجازات كبيرة في مجال التنمية والاقتصاد، حيث أصبحت واحدة من أبرز المناطق الاقتصادية في الشرق الأوسط. تضم كوردستان العراق مدناً حديثة ومزدهرة، وتقدم فرصاً اقتصادية وتعليمية وصحية متميزة لسكانها.
من خلال النظر إلى التنوع الثقافي والتاريخ الغني والتقدم الاقتصادي، تظل كوردستان مكاناً فريداً يستحق الاكتشاف. إنها ليست مجرد منطقة جغرافية، بل هي تجسد تراثاً وحضارة تزخر بالجمال والحكمة. كما أنها منطقة حكم ذاتي معترف بها في دستور العراق.
يمثل شعب كوردستان قصة ملهمة عن الصمود والتحدي، فقد مرت هذه المنطقة بتحديات كثيرة على مر العصور، بدءا من الصراعات السياسية والمدنية، وصولاً إلى الحروب والإبادات الجماعية والاضطهاد. وعلى الرغم من كل هذه التحديات، استطاع الشعب الكوردي أن يصمد بشكل رائع، متجاوزاً الصعاب ويعيد بناء نفسه بكل قوة وإرادة.
يتبوأ الشعب الكوردي اليوم مكانة مرموقة في المنطقة، حيث يحظى بتقدير عالٍ، خاصة في العراق. ورغم الاستقرار النسبي الذي حققته كوردستان، فإنها لا تزال تواجه تحديات جديدة لا تنقطع، تتمثل في صراعات محلية ودولية، ومحاولات الاختراق من الداخل تستهدف تدمير الاستقرار والاستقلالية التي حققها الشعب الكوردي.
ومع ذلك، يظل الشعب الكوردي رمزاً للإرادة والتصميم، حيث يواجه التحديات بشجاعة وثبات. إن قدرته على التعامل مع التحديات والتحول والنهوض من تحت الركام تجعل منه نموذجا يحتذى به في مواجهة الصعاب. إن قصة صمود الشعب الكوردي تظل تلهم العالم، تذكيراً بأهمية الإرادة القوية والصمود في وجه التحديات، وبقوة الإرادة التي يمكن أن تحقق المستحيل.
وهنالك عوامل قد أدت إلى ازدهاره ووصوله إلى ذلك المستوى من التقدير والثقافة، والاستقرار النفسي والسياسي والثقافي. رغم ما يشهده العالم من اضطرابات خاصة وأن كوردستان محاطة بدول ومناطق ملتهبة وهذا ما يؤثر على توازنها الداخلي. لكن تلك المنطقة تتمتع بصفة اجتياح الصعاب والتمكن منها. فلنذكر تلك العوامل: هو ما نستطيع تسميته بالمؤسس هو مصطفى بارزاني والد السيد مسعود بارزاني. فقد تزعم الحركة الثورية الكوردية وتم نفيه أكثر من مرة، ليشارك في تأسيس جمهورية مهاباد في عام 1945. هذه الحركة الكوردية تختلف عن الحركات القومية الأخرى، فقد تم تأسيسها على التسامح والانفتاح نحو الآخر. لم يكن هدفها تهميش ونفي الآخرين، بل المطالبة بحقوق الكورد المغتصبة. وإن السيد مسعود بارزاني هو وريث أبيه في حركة النضال وتعليمه، فقد نشأ على الروح الثورية النزيهة أي الابتعاد عن سفك الدماء والانتقام وهذا ما زرع ثقة المواطن الكوردي وغير الكوردي بهذه الشخصية. فهو لا ينقض المواثيق ولا يخلف العهود التي يقطعها. لذلك أسس لكوردستان مساحة وقاعدة ضخمة تحتوي على روح التآلف والتسامح والاستماع إلى أحقية الآخر.
لقد تعرض الشعب الكوردي إلى الكثير من المجازر وأشهرها ما حدث في حلبچة التي تم قصفها بالمواد الكيمياوية، وكذلك الاضطهادات أو التصفيات السياسية والعرقية. لكن تلك المنطقة بقيت محافظة على أصالتها ووفائها وعدم الخوض في اتجاه الثأر والغدر. فعندما تم اجتياح العراق من قبل قوات التحالف وإسقاط نظام صدام حسين، بات العراق كرة ملتهبة من الاضطرابات والصراعات الدموية وظهور الميليشيات وتنظيمات إرهابية كالقاعدة وآخرها داعش. وبقي العراق في معترك حرب الميليشيات المدعومة من قبل النظام الإيراني، وهذه تقوم بتصفية كل من يعارضها.
لكن المنطقة التي بقيت ناجية حامية نفسها من العصابات هي كوردستان، فقد أصبحت ملاذاً خصباً لكل من يتوق للحرية، ولكل من يحاول إيجاد المكان المناسب للمعيشة، فيدرك الفرد بأنه لن يتعرض هناك لتصفية جسدية بسبب قوميته أو دينه أو عرقه أو حتى انتمائه السياسي. ولا يشعر الفرد بأن تلك السياسة قد تتغير في يوم ما كونها راسخة من تأسيسها فهي ليست وليدة اللحظة ولا يجد المرء أن هناك نكثاً للعهد في تاريخها. ولا بد من ذكر الاستقرار الاقتصادي وهو مهم، فرغم ما تعانيه كوردستان من حصارات اقتصادية بحقها إلا أنها احتوت التضخم الاقتصادي بفضل نزاهة النظام الحاكم. فمثلاً لا نجد الانفجار الهائل بأسعار العقارات كما في بقية أنحاء العراق، فأسعار العقارات معقولة بالمقارنة مع ما نشهده من ارتفاع عالمي، ويعود سبب ذلك إلى عدم وجود مافيا العقارات أو غسيل الأموال عن طريق العقارات كما يحدث الآن في بغداد مثلاً.
والعامل الأهم هي كلمة للقائد مسعود بارزاني بمناسبة مهرجان دهوك الثقافي الخامس، وقد ألقاها باللغة العربية وهي موجودة على منصة اليوتيوب تحت عنوان (الرئيس بارزاني يخاطب العراقيين ويلقي كلمة باللغة العربية). وكانت كلمته هي كالآتي:
"إخوتي وأخواتي، بداية أود أن أشكركم على حضوركم لهذا المهرجان. وأود أن أوكد على أواصر الأخوة والمحبة بيننا. مهما اختلف السياسيون يجب أن تبقى العلاقة بين الشعوب علاقة متينة، علاقة محبة، وعلاقة أخوة. من مآثر ثورة أيلول بالرغم من كل ما حصل، وكذلك ثورة أيار بالرغم من كل الكوارث التي حلت بشعب كوردستان من الأنفال إلى القصف الكيمياوي إلى الإبادة الجماعية إلى التهجير القسري، لكن احتفظ شعب كوردستان بحبه ومودته تجاه أشقائه العرب. لم نحسب تلك الجرائم على الشعب العربي وإنما على الحكام الذين ظلموا العرب والكورد وجميع المكونات الأخرى في هذا البلد.
يجب أن تبقى هذه العلاقة قوية بيننا وألا تتأثر بالخلافات السياسية. وأخيراً أود أن أشير إلى مقطع للشاعر التونسي الكبير (أبو القاسم الشابي) الذي جسد حالتنا الحالية بذلك الشعر الكبير والعظيم:
(إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحُفر)
ونحن اخترنا صعود الجبال.
لنحلل هذا الخطاب القصير والمهم، فقد اختزل فلسفة عميقة ومتجذرة للأخلاقيات التي تتمتع بها شخصيته وطريقة حكمه. فهو أخرج نفسه من إطار السياسة متحدثا عن الأخوة والانسانية والمحبة دافعاً بكلتا يديه الصراعات السياسية وإبعادها عن الشعوب فهو يعرف ما تفعله السياسات. فهو لم ينظر إلى العرب كمجرمين وطغاة لأن صدام حسين قد ارتكب المجازر مثلا. بل يعرف حق المعرفة أن الشعوب لا ذنب لها، مذكراً الجمهور بما تعرض له الشعب الكوردي من اضطهادات وقمع ومجازر، لكنه حرص على أن يكون العرب أشقاء للكورد. فهو يعتبر تلك المجازر قد ارتكبت من قبل الأنظمة الجائرة فلهذا لم يمارس سياسة الانتقام، بل ينظر إلى الآخرين كجزء من شعبه. فهو تكلم عن شعب كوردستان ولم يقل الشعب الكوردي. إن هذا التعبير يحتوي على الكثير من الدلالات والمفاهيم الإنسانية، والاجتماعية، والنفسية، والسياسية. فقد اعتبر شعب كوردستان يتألف من مكونات مختلفة. كما أشرنا في الأعلى أن مفهوم قوميته تختلف عن مفاهيم القوميات الأخرى، فالسيد بارزاني صاغ فلسفة جديدة لمفهوم القومية. خرج من الأعراف القومية الكلاسيكية. فقد استشهد بشعر عربي لأبي القاسم الشابي، رغم معرفته الدقيقة بأن هناك الكثير من الشعراء الكورد وهناك شعر كوردي جميل معبراً عن كل الحالات، لكنه اختار الشعر العربي ليؤكد حرصه على التعايش السلمي مع أشقائه العرب. فقد صنع بذلك حياة للشعب الكوردي ولكل من يعيش معهم.
إن هذه السياسة وروح الأخوة تدفع بالعراقيين للعيش في كوردستان، في منطقة آمنة والأهم من ذلك مستقرة في رؤاها وسياستها. ولا يشعر الفرد بأن تلك السياسة ربما قد تتغير مستقبلاً.
هناك موجة كبيرة من العراقيين تسعى للتوجه إلأى كوردستان سواء من أجل المعيشة أو من أجل السياحة، وحتى الشركات الأجنبية تسعى وتحرص على إقامة مقار عملها في كوردستان وخاصة أربيل. في كوردستان لا يوجد مبدأ "البلطجة" أي إذا ما حدثت أي مشكلة أو توتر سياسي لا نرى هناك من يهاجم المؤسسات السياسية والمدنية المختلفة في حال كان بين الإقليم وبين تلك الجهات أزمة سياسية. لكن تلك الأمور تحل بالطرق الدبلوماسية. وحتى المدني يشعر بالأمان كونه غير معرض للخطف والابتزاز. كل تلك العوامل أدت إلى ازدهار الإقليم، فالسياسة الحكيمة هي وراء ذلك وليس كما يظن البعض أن سبب ذلك هو جمال الطبيعة فقط. فالأمان وثبات السياسة هي أهم من كل شَيء.
سيف شمس
كاتب عراقي