هدية من البارزاني الخالد
هدية من البارزاني الخالد

صيف عام 1958 استعدت مجموعة من طلبة كلية التاريخ في جامعة يريفان بأرمينيا في نهاية العام الدراسي للسفر إلى موسكو ولينينغراد (سانت بطرسبورغ). كان الرحلة رسمية والغرض منها أن يتعرف الطلب عملياً على هذه المدن التاريخية.

كان أخي أورديخان في لينينغراد. وكان يقيم هناك منذ سنة ويدرس في معهد الاستشراق المشهور قسم الدراسات الكوردية بصفة مساعد باحث  وكان منخرطاً في كتابة أطروحة دكتوراه عن الملحمة الكوردية قلعة دمدم (الخان ذو الكف الذهبي).

في ذلك الوقت كان البروفسور قاناتي كوردوييف قد استلم رئاسة قسم الدراسات الكوردية خلفاً للأكاديمي جوزيف أبكاروفيتش أوربيلي. وقد التقى البروفسور كوردوييف أثناء رحلة أكاديمية إلى طشقند عاصمة أوزبكستان بالقائد الراحل ملا مصطفى البارزاني. وخلال الحديث علم من البارزاني أن هناك مغنيين شعبيين بين مقاتلية الشجعان الخمسمئة وأن هؤلاء المقاتلين المغنين ينشدون ملحمة قلعة دمدم.

بعد مدة قال البروفسور كوردوييف لأخي أورديخان: لقد انتقل البارزاني إلى موسكو اذهب إليه واحصل منه على عناوين أولئك المغنين الشعبيين المقيمين في اوزبكستان لتتواصل معهم وتسمع منهم. ثم أعطاه رقم هاتف الملا مصطفى. وبناء على هذا الاقتراح استعد اورديخان للسفر إلى موسكو. في هذه الأثناء سمع بأنني أيضاً مسافر إلى موسكو واتفقنا على أن نلتقي كلانا هناك.

وكانت أمي قد اشتاقت إلى ابنها الذي لم تره منذ سنة وحين سمعت بموضوع سفري إلى موسكو ثم إلى لينينغراد رغبت أن ترافقني لتلتقي بابنها، أخي أورديخان. فحققت لها هذه الرغبة.

و في موسكو التحق بنا أورديخان قادماً من لينينغراد.

ولأجل تحقيق الغاية التي جاء من أجلها إلى موسكو وهي لقاء البارزاني توجهنا إلى كشك هاتف في المدينة ليخابر الزعيم وتركنا والدتنا في البيت. قلت لأخي أورديخان: إن سمحت لي فسآتي معك. فقال حسناً واقترح أن نأخذ والدتنا أيضاً.  حمل أورديخان السماعة وطلب الرقم الذي دونه عنده وهو رقم البارزاني. كان البارزاني في الجهة الأخرى على الخط وعرف أخي أورديخان لأن البروفسور كوردوييف تحدث له عنه. وبعد تبادل التحيات وسؤال الأحوال قال أخي: شقيقي جليل وأمي جاءا إلى موسكو وهما يرغبان في لقائكم إن لم يكن هناك مانع عندكم. أجاب البارزاني باختصار: تعالوا الآن.

سجل أورديخان العنوان عنده وعدنا بسرعة إلى البيت ولكن لم تكن والدتنا هناك. بحثنا  في كل مكان دون أن نجدها. كان بعض زملائنا هناك فقالوا لي لقد اخذت الطالبات أمكما إلى المدينة للتنزه لما رأينها وحيدة. فاضطررنا أنا وأورديخان أن نغادر من دون أمنا حتى لا نتأخر.

وصلنا إلى مبنى من عدة طبقات وكان يقيم فيه الضيوف المهمون.  طلعنا بالمصعد إلى الطابق الذي يقيم فيه البارزاني. ولما وصلنا خرجنا من المصعد ورأينا على اليمين باباً مفتوحاً على مصراعيه. كان هناك بضعة أشخاص وبدا أن الباب مفتوح طوال اليوم لأجل استقبال الضيوف. كان أولئك الأشخاص على علم بقدومنا وبعد أن حييناهم باللغة الكوردية دعونا إلى الدخول. كان الصالون بطول سبعة أمتار وقف على الجهة اليمنى بضعة رجال كورد استقبلونا مرحبين.

ثم تقدم الراحل البارزاني صوبنا، رحب بنا، ولما رأى أن الوالدة ليست معنا، سألنا: أين أختي؟  فأخبره أخي أورديخان بما جرى معنا. فابتسم وقال بلهجة عذبة: عملتم بالعادات الكرمانجية. (يعني لم تهتموا كثيراً بأن ترافقكم أمكم). في الأخير أقنعناه بأن ما رويناه هي الحقيقة.

بعد ذلك ذهبنا إلى غرفة فسيحة تتوسطها طاولة مربعة الشكل وهناك مقعد بين الطاولة والجدار يمكن أن جلس عليه ثلاثة أشخاص بالإضافة إلى كرسيين عند الطاولة.

جلس كل من القائد الراحل وأورديخان على كرسي وأنا جلست على المقعد وكانت خارطة كوردستان معلقة خلفي على الحائط.

وبعد عبارات الترحيب والمجاملات بين الراحل وأخي أورديخان جاء الحديث ليتمحور حول فحوى أطروحة الدكتوراه التي يعمل عليها أورديخان حول ملحمة قلعة دمدم والخان ذي الكف الذهبي (خانێ چەنگزێرین) وزود الراحل البارزاني أخي بأسماء بعض المغنين  من المرافقين الذين رافقوه في مسيرته صوب الاتحاد السوفييتي.

خلال انشغالهما بالحديث التفتت ورائي وحدقت في الخارطة المعلقة على الحائط. كانت خارطة قياسها 90 سم في 48 تمثل كوردستان. أدرك الراحل أنني أنظر إلى الصورة بحب وحسرة. فقلت: ما أجملها من خارطة! ووسط دهشتي نادى البارزاني أحد المقاتلين وقال: انتزع هذه الخارطة من الجدار. عرفت أنه عقد النية على أمر ما وأن لكلامه معنى خاص فقلت لماذا ستنتزعونها من الجدار؟ فقال: لأهديها لك. شعرت بالخجل وندمت على ما تفوهت به من إعجاب بالخارطة. قلت: أقبل هديتك.  لكن يأتيك زوار وضيوف كثيرون، أليس من الأفضل أن تبقى الخارطة في محلها؟ فقال لا تقلق فلدينا من هذه الخارطة نسخ كثيرة. فقلت: يبدو أنك تقول ذلك لكي أضطر إلى قبولها؟ فالتفت البارزاني إلى المقاتل الذي كان واقفاً بجانبنا وقال اذهب وهات الخرائط. بعد قليل عاد المقاتل ومعه لفافة عبارة عن نسخ عديدة من تلك الخريطة المعلقة على الجدار وضعها أمامنا.

لقد حصلت على هدية لا مثيل لها وهي عزيزة جداً على قلبي. تابعنا الحديث بعد ذلك إلى أن عاد المقاتل وقال للبارزاني بصوت خفيض: هنالك ضيوف ينتظرونك. فرد عليه قائلاً: فلينتظروني في الغرفة الأخرى. عندي الآن ضيوف. وبعد لحظات انتهت الزيارة وقمنا لنعود إلى البيت فودعنا البارزاني وقال لنا: سلما على أبيكما.  فقد كان القائد الراحل قد التقى أبي في إذاعة يريفان حين جاء إلى أرمينيا لزيارة أبناء الشعب الكوردي هناك.

حملت هديتي الثمينة، الخارطة المرسومة بأيد ماهرة وخبيرة، بمشاعر عميقة من الامتنان والشكر.

كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها خارطة كوردستان مرسومة بإتقان ودقة وحرفية. خارطة تبين حدود كوردستان وكذلك أماكن التوزع الجغرافي للشعب الكوردي في الشرقين الأوسط والأدنى والقفقاس والأناضول أيضاً.

لقد انحفر ذلك اليوم المشرق والخاص عميقاً في ذاكرتي. والآن ها هي الخارطة الهدية في فيينا، معلقة على جدار من جدران مكتبة جاسم جليل يشاهدها زوار المكتبة ويكيلون الثناء لها وللبارزاني ولكوردستان.


البروفسور جليلي جليل


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved