حين نجت بغداد بفضل سد دربندخان
حين نجت بغداد بفضل سد دربندخان
April 22, 2024

ليلة طويلة

مضت ليلة التاسع والعشرين من آذار من العام 1954 على أهل بغداد طويلة مرعبة، فمياه الفيضان لم تعد تتهددهم من جهة النهر فقط وإنما أصبحت المدينة تحت التهديد من الجهة الشرقية أيضاً فسدة ناظم باشا التي تحيط بالمدينة من هذه الجهة لحمايتها صارت تحت ضغط شديد بعد حدوث كسرات جديدة في الأنهر شمال بغداد ويزيد هبوب رياح عاتية في اليومين الماضيين من خطورة الوضع. 

والفريق الهندسي البريطاني الذي استعانت به مديرية الري العامة أبلغ الحكومة رسمياً بأن نسبة الخطر على المدينة التي يسكنها آنذاك ثلاثة أرباع المليون بلغت 95% .

اجتماع طارئ

وهكذا فلم يكن بد في مثل هذه الظروف من اجتماع طارئ لكل مراكز القوى الرسمية الفاعلة في البلاد وقد تم ذلك في الساعة العاشرة من مساء تلك الليلة الليلاء في مديرية الري العامة ، وقد ضمّ الاجتماع بالإضافة الى أعضاء الحكومة جميع رؤساء الوزارات السابقين وعدد من أعضاء مجلسي الأعيان والنواب البارزين وعدداً كبيراً من خبراء البلاد المختصين بالأمر إضافة إلى ولي العهد آنذاك الأمير عبدالاله بن علي .

وقد اتفقت كلمة المجتمعين على قرار وحيد بالغ الخطورة ينص على ترحيل سكنة جانب الرصافة من بغداد الى جانب الكرخ ومعلوم أن الثقل السكاني لبغداد هو جانب الرصافة .

 وزير شجاع

شخص واحد عارض القرار وطرح رأي مخالف وأعلن أمام الجميع بأنه سيتحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك واستعرض أمام المجتمعين المخاطر التي سيتسبب بها الترحيل وأثبت أنها تتجاوز كل المخاطر المحتملة التي يتعرضون لها في حال بقائهم في بيوتهم في الوضع السائد آنذاك .

هذا الشخص هو وزير الداخلية المرحوم (محمد سعيد قزاز)، وأمام إصرار الوزير وقوة حجته التي ركز فيها على أن عطل سيارة واحدة على أحد الجسرين القائمين في بغداد آنذاك سيؤدي الى مذابح بين الجماهير المرعوبة الهائجة وقد ينتهي الأمر بالبلاد إلى كارثة تتجاوز خطورتها أي مخاطر محتملة من بقاء السكان في محلات سكناهم فقد وافق المجتمعون على رأيه وظهر الوزير قزاز ليعلن الخبر بنفسه على أبناء بغداد من إذاعة الحكومة.

ولادة السد

هدأت الريح وانخفضت إيرادات الأنهار وتجاوزت بغداد الخطر ، لكن ماحدث في الفيضان والنتائج التي ترتب عليه دفع الحكومة الملكية إلى  إنشاء منظومة سيطرة وتحكم في الموارد المائية العراقية وأوكلت الى مجلس الأعمار تنفيذ الأمر وبخطوات جادة سريعة .

وكان سد دربندخان أحد الحلقات المهمة في تلك المنظومة باعتبار الإيرادات العالية التي كانت تأتي من  نهر سيروان هي سبب رئيسي في حدوث الفيضانات السابقة .

تم إجراء المسح الشامل لمجرى النهر وإعداد الدراسات الدقيقة للمناطق المقترحة لإقامة السد، والمفاضلة بين البدائل الممكنة في طرق وأساليب الإنشاء والمقارنة بين الكلف المتوقعة ومقدار الخزن الذي سيتحقق وقد قامت بذلك شركات عالمية كبرى ذات خبرة استمدتها من العمل في هذا المجال في أمريكا وأوروبا بالدرجة الأساس.

وانتهى ذلك كله الى المباشرة في العام 1956 بتنفيذ سد على ذلك النهر قريباً من قصبة دربندخان في محافظة السليمانية وقد تولى التنفيذ شركات امريكية رصينة استطاعت أن تنجز العمل خلال خمس سنوات حيث تم إفتتاح السد ودخوله طور التشغيل في 1961/11/23 من قبل رئيس الوزراء العراقي الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، وكان الملك فيصل الثاني قد وضع الحجر الأساس له قبل المباشرة بالعمل  وبذلك فإن السد بدأ تأدية مهامه مع بداية الموسم الرطب لعام 1961 .

ولأن السعة التخزينية المتاحة في السد والبالغة (2.5) مليار متر مكعب لا تكفي لاستيعاب كامل الإيرادات  المسجلة من نهر سيروان فقد صمم السد ليكون الجزء الرئيسي في منظومة خزن وتشغيل وإرواء تكتمل مع سد حمرين وسدة  الصدور في ديالى اللذان تم إنشاؤها في مرحلة لاحقة .

تصميم سبق عصره

واليوم وبعد أكثر من ستة عقود على  إنجاز السد وبعد التطور الهائل الذي حصل في تقنيات تصاميم وأساليب تنفيذ السدود العالية وفي عمليات الرصد والتحسس وخضوعها جميعاً لأنظمة الحوسبة الرقمية، فإن سد دربندخان يستحق التأمل  وإعادة الدراسة على ضوء المعطيات الحديثة لأنه برأيي المتواضع يمثل ثورة كبيرة في تقنية السدود وهو بحق قد سبق عصره وتجاوز زمنه ولابد من استثمار ذلك في مجالات البحث العلمي لكليات الهندسة ومجالات تدريب الكوادر الفنية التي تتولى إدارة السدود لغرض تنمية مهاراتهم وتوسيع أفقهم العلمي .

وقد قدم في حينه مقترحان لإنشاء السد يتمثل أولهما في إنشاء سد خرساني مشابه لسد دوكان، أما الاقتراح الثاني فيتضمن إنشاء سد من إملاءات حجرية بلب طيني  واعتماداً على دراسات الجدوى المقدمة والتي تقارن بين البديلين من حيث التكلفة والكفاءة فقد استقر رأي الفنيين على اعتماد البديل الثاني .

إن اللب الطيني الذي اختير من قوام تم تحديده بمواصفات خاصة كي يتناسب مع الظروف المحيطة بالسد والظروف المحتمل حصولها له خصوصا وأنه يقع في منطقة قريبة جدا من الحزام الزلزالي النشط في غربي إيران .

والسد الذي لا يتجاوز طوله مسافة (450) متراً وهو طول مثالي لصالح الكلفة والوظيفة معا وعدم حاجته لأعمال تحشية بعد الإنشاء، وتوفر المقالع التي استخرجت مواد الإملائيات منها قريباً من السد يدل على اختيار سليم للموقع .

وقد استثمر في التصميم ارتفاع عمود الماء في السد الذي يزيد عن 100م في بناء محطة توليد كهرومائية من 3 وحدات تبلغ طاقتها الإجمالية (250 ميكاواط) .

السد يتعرض إلى زلازل 

وفي تشرين الثاني من العام 2017 ومع اقتراب الذكرى السادسة والخمسين لافتتاحه  تعرض السد لزلزال عنيف تبلغ قوته (7.2) درجة على مقياس ريختر ويقع مركزه على مسافة  100 كم تقريباً عن محور السد .

لقد توقع المصمم في الدراسة الأولية تعرض السد لزلزال بهذه القوة  رغم أن احتمالية ذلك لا تزيد عن نسبة 1 من 1000 ومع ذلك فقد وضع تصميمه على هذا الأساس وبذلك فإن السد استوعب هذه الهزة وتجاوزها بدون أضرار تهدد سلامته ولحسن الحظ فإن الهزة  حدثت بينما كان مستوى الخزن فيه ضمن الحدود الدنيا وبذلك فإن إعادة التأهيل لم تستغرق وقتاً طويلاً وعاد السد لأداء وظيفته في ذات الموسم الرطب الذي تعرض فيه للزلزال (2017 - 2018) وكان فيضان موسم (2018 - 2019) اختباراً فعلياً للسد إذ اقترب الخزن فيه من الحدود التصميمية القصوى دون أية مشاكل .

وإضافة إلى الزلزال الذي تعرض له في العام 2017 فإن سد دربندخان سبق له أن عاش قبل ذلك زلزالاً من نوع آخر في الثمانينات حيث كان ساحة معركة في بعض مراحل الحرب العراقية الإيرانية 1980 - 1988 وقد عمد النظام السابق ولدواع عسكرية إلى تدمير بوابات المسيل المائي وإزالتها تماماً وبذلك فقد خرج السد من الخدمة ومنع الخزن فيه،إلا أنه أعيد تأهيله لاحقاً بعد انتهاء الحرب وبذلك فإن سد دربندخان يمثل ذاكرة حية وشاهد صدق على أحوال الماء والناس والطبيعة في هذا العالم.

جمال أخاذ

يقع السد في منطقة من أجمل مناطق كوردستان وتمتد بحيرته بين جبال عالية ووديان متعرجة تترك ما بينها جزر صغيرة وتنحسر الجبال أحياناً لتترك بينها وبين البحيرة أراضٍ منبسطة مع جو معتدل معظم فصول السنة، ومع أن السد بحد ذاته يشكل منطقة جذب سياحي فإن طبيعة موقعه وطبوغرافية المنطقة تشكلان بيئة مثالية للاستثمار السياحي.

ملاحظات

تعرضت بغداد في ربيع عام 1954 إلى ارتفاع غير مسبوق في مناسيب نهر دجلة بسبب موجة إيرادات عالية في حوضي الزاب الاسفل وسيروان سبقتها الثلوج والأمطار الغزيرة.


كاظم ساهر

منسق المديرية العامة للسدود بين الحكومة المركزية وإقليم كزردستان سايقا


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved