أحمد خاني، شاعر كلاسيكي ومتصوف کوردي بارز من القرن السابع عشر ولد وتوفي في مدينة بايزيد Dogubeyazit
بالقرب من الحدود التركية الإيرانية الحالية.لعب هذا الشاعر دوراً تنويرياً مهماً فدعا في شعره إلى التوحد والحرية والاستقلال وضرورة وجود قائد يلتف حوله الکورد أجمعون ليخلصهم من ظلم الامبراطوريتين الصفوية والعثمانية.
ومن أهم ما كتبه أحمد خاني ملحمة مم وزين الشعرية التي تتضمن أكثر من ألفين وستمائة بيت شعري على أحد الأوزان الشعرية العربية المعدلة على يد شعراء العجم. و، هذه الملحمة لا تحكي فقط قصة الحب الخالدة بين الشاب مم من موظفي الإمارة الکوردية بوتان وبين الأميرة الکوردية زين شقيقة حاكم الإمارة بل تتضمن أفكاراً رائعة في مختلف المعارف كالفلسفة والفلك والتصوف.
بالإضافة إلى هذه الملحمة المهمة في تاريخ الأدب الکوردي، والتي تعتبر بحق إنجيل القومية الکوردية، ألف الخاني قاموساً صغيراً لتعليم أطفال الکورد اللغة العربية، كذلك وضع مناهج مدرسية تربوية في تعليم عروض الشعر ومبادئ العقيدة الإسلامية وله ديوان شعري جميل يتضمن قصائد تختلف مواضيعها من الفلسفة إلى التصوف إلى الغزل.
ولعل الدعوة إلى الكتابة باللغة القومية من أهم ما جعل الخاني مميزاً في تاريخ الأدب الکوردي وجعله أباً روحياً للكتابة باللغة الأم وذلك من خلال مقدمته الرائعة للملحمة المذكورة قبل سطور.
وبالرغم من أن خاني يعتبر لغات الشعوب المجاورة بمثابة معادن ثمينة كالذهب والفضة يقبل عليها الناس ويتداولونها، إلا أنه يقول: إن النحاس الکوردي يمكن أيضاً أن يصبح ذا قيمة كبيرة فيما لو تبناه أمير أو حاكم.
من هذه المقدمة أود الانتقال إلى موضوع هام لفت نظري في شعر أحمد خاني الذي انكببت على دراسته وترجمته أعواماً عديدة وهو موضوع التسامح الإنساني والديني والاحتفاء بالحب كقيمة عليا.
يتسم الأدب الصوفي بشكل عام بالتسامح. ويستند الخطاب الصوفي إلى قيم ومبادئ من شأنها أن تعزز التسامح والتآلف بين البشر بدون تمييز. والمتصوفة، كما عند ابن عربي، يقبلون بالتعايش بين جميع الأديان، بل ويعتبرونها صوراً متعددة لموجود واحد. فالكنيسة هي بيت الله مثل المسجد والكنيس وحتى بيوت الأصنام الوثنية وبيوت النار الزرادشتية تعتبر حسب شعراء التصوف بيوت الله ولا فرق بينها.
وانطلاقاً من هذه القاعدة الصوفية الذهبية التي تعتبر جميع الأديان سماوية ومتعادلة دعا خاني اللهَ إلى عدم تعذيب البشر بالنار حتى الكفار فهذا، حسب خاني، أمر بعيد عن العدالة الإلهية.
يقول خاني:
إننا وإن كنا كفارًا وعصاة، نأمل جميعًا في رحمتك ومغفرتك يا رب.
ولا يوجد أحد من الكفار والعصاة، لا يكون مظهرًا وتجلياً من تجليات صفاتك
فلقد أصبحنا كفارًا لأن القهار اسم من أسمائك، ولأنك غفار فقد أصبحنا عصاة نرتكب الذنوب.
هذه الفكرة (أي كون أفعال الإنسان تجليات لأسماء الله الأزلية) هي التي انطلق منها المتصوفة ومنهم خاني للوصول إلى حالة من القبول بالآخر مهما كان دينه ومذهبه وعقيدته. ولذلك لا يجوز أن يعاقب الرب عباده على أفعالهم وبالتالي لا يجوز للبشر محاربة بعضهم بعضاً بسبب الاختلافات الدينية.
ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن التسامح موجود في الأصل بين المجتمعات الکوردية وأن الکورد لا يعرفون أصلاً التطرف الديني وبيئتهم بعيدة عن تقبل الإرهاب باسم الدين. وقد أشار المستشرقون إلى التسامح في المجتمع الکوردي من خلال تعامل المرأة الکوردية مع الأجانب بكل حرية وبدون البرقع ويمكن أن تصافح المرأة رجلاً أجنبياً وتجلس في مجلسه وتقدم له الطعام بغياب الرجل وقد أشار إلى ذلك الكاتب والمترجم الکوردي ملا محمود بايزيدي من القرن التاسع عشر فقال في كتابه عادات الأكراد وتقاليدهم الذي ألفه بناء على طلب القنصل الروسي في أرضروم أوغست زابا 1801-1894: ولا يعرف الأكراد سوء الظن بالنساء بل لا يخطر في بالهم أن يتهموا نساءهم بارتكاب الزنا وأفعال السوء، حتى ولو اختلطن بالرجال الأجانب وتحدثن معهم ولعبن وضحكن أو إن اقتضى الأمر بقين في بيوت الغرباء و نمن هناك.
لذلك، وبما أن التسامح قيمة أصيلة من قيم المجتمع الکوردي، فقد رأينا تسامح الشعراء الکورد وفي مقدمتهم أحمد خاني وكذلك سلفه ملاي جزيري (1570-1640) الذي كرر في كثير من قصائده أن الحب يمكن أن يكون ديناً بديلاً وأن معبد لالش قد ينوب عن الدير والكنيسة وبيوت العبادة الأخرى.
إن خيط التسامح يجمع كثيراً من الشعراء في الشرق، من جلال الدين الرومي، إلى ابن عربي وابن الفارض وشعراء الفرس الكبار وصولاً إلى شعرائنا الکورد الكلاسيكيين الذين أشادوا بالتسامح ووحدة العنصر الإنساني وضرورة إشاعة المحبة الإلهية بدل العقائد التي يمكن أن تتناحر وتسبب سفك الدماء بسبب التعصب والتشدد الذي يقوده على الأغلب رجال الدين.
لقد جاء التصوف كبديل سلمي عن أحكام الشريعة التي كانت تتسم بالعنف في أحيان كثيرة والتقط المتصوفة هذا الخيط الإنساني واجتمعوا حوله لا يرون له بديلاً.
التسامح مع المرأة
أشرنا إلى أن التسامح الديني في المجتمع الکوردي أدى إلى الاعتراف بكينونة المرأة إنسانياً وقبول وقوعها في الحب فكثرت قصص الحب والأغاني التي تمجد العشق بين الشاب والفتاة. ومن المعروف أن حالات هروب عاشقين من العائلة ولجوئهما إلى كنف حاكم، بيك أو رجل دين كبير لحماية الحب كانت وما تزال دارجة في بعض المجتمعات الکوردية وإن كانت بعض الحالات تنتهي للأسف بقتل الفتاة غسلاً للعار.
يتحدث أحمد خاني، وهو رجل دين وصوفي كبير عن الحب بين الرجل والمرأة ويرى أنه عاطفة نبيلة يجب احترامها. كما نراه يشيد بالعلاقة قبل الزواج ويبيح للعاشقين ممارسة التقبيل بعيداً عن الفضوليين.
فالعاشقان مم وزين، حسب القصة التي ألفها، لا تربطهما ببعض أي روابط شرعية سوى رابطة الحب، فلا هما خطيبان ولا هما زوجان، إلا أن الخاني يسمح لهما بممارسات جنسية من قبلات وعض وهمس ولمس وشم وضم في أحد بساتين قصر الأمير شقيق الأميرة زين ثم في مرحلة أخرى في إحدى ردهات القصر الأميري. ونرى أنه يتسامح في الأمر إلى حدود معينة سماها هو حدود المداعبة، وقد حدد لها منطقة النطاق خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. وهذا يعني أن الخاني ما كان ليسمح لعاشقين بممارسة الجنس حتى النهاية بالرغم من مشروع الزواج الذي يأملان في تحقيقه. فهو يتسامح فقط في النصف العلوي من الجسد في حالة الحب ولا يقبل بالنزول أسفل من ذلك وهذا لحماية الحب من النجاسات بتعبيره طبعاً.
إن المرء يتساءل هنا عن مدى جدية خاني في إباحة هذه الممارسات الايروتيكية بين العشاق، وهل كتب ما كتبه بدافع أدبي محض أم أن هذه هي عقيدته في الحب الذي لا بد حسب ما كتبه الشاعر أن يتخلله بعض من الاتصال الجسدي والمتعة؟
أعتقد أن خاني الذي تسامح في كثير من الأمور وكان من الجرأة إلى حد أنه قام بتبرئة إبليس من جرم عدم السجود لآدم، ودعا كما قرأنا ألا يعذب الله أحداً من البشر حتى الكفار، يعتقد بما كتبه في هذا المجال أيضاً فلا غضاضة في الأمر ما دام الحب ورضا الطرفين هو الأساس في أي عملية جنسية.
جان دوست
شاعر وروائي كوردي، صدر له العديد من الكتب والروايات وترجم العديد من الروائع الكوردية الى العربية