ليس من المعقول أبداً وليس من المنطقي أبداً أن يستمر هذا النهر من الدم في الجريان دون أن يسعى أحد لتسكيره، أي عشق للقتل يتلبس هذا الرجل الذي لم يعد قادرا على العيش خارج هذا النهر؟ حتى كأن السلطة لم يبق لها معنى لديه سوى تحرير مراسيم الموت، بلا حدود، وبلا سبب، وبلا هدف.
إن أي قاتل محترف، جائع، مريض، قد يمر بفترة استراحة يتكلم بها مع نفسه، وربما يطرح عليها سؤالا عن بعض من اختارهم للقتل إن كان قد أحسن الاختيار، لكن هذا القاتل/ البدعة لا يريد أن يستريح، يرفض أن يأخذ اجازة يطرح فيها على نفسه هذا السؤال.
إن الدفاع عن السلطة في العالم الثالث يستوجب القتل لتثبيتها، طيلة عشرين عاماً، ومع ذلك فهو لم يتوقف عن لعبة الموت، صار وجوده في الحكم يتركز في معنى أن نهر الدم يجب ألا ينقطع عن الجريان لأن انقطاعه يجعل سلطته بلا معنى.
أباد من رعاياه في المدة ما بين 1968 و1980 قرابة عشرين ألفاً، معظمهم بوسيلته المفضلة: التعذيب الذي يشمل أقرب خلصائه. تقول الروايات إنه أعدم ناظم كزاز مدير أمنه العام نشراً بالمنشار لأنه تحداه في المحكمة الخاصة، وتقول أخرى إنه سلق وزير صناعته محمد عايش في طنجرة نحاس (صفرية) لأنه تجرأ عليه في محكمة مماثلة، والخيال الشعبي حين ينسج هذه الصور إنما يستند إلى أرضية هي التي تفسر لنا معظم ما نقرأه في التاريخ القديم والحديث من الأمور الخارقة، فهي ليست مجرد حكي يتناقله الناس دون مضمون أرضي.
ومن الإيرانيين قتل مليون في حرب كلفت جيشه نصف مليون، كثير منهم أعدمته فرق الإعدام العاملة وراء الخطوط لظنه تقصير أو جبن أو تراجع.
واليوم وقد سكتت الجبهة الإيرانية، تتوجه الفيالق إلى كوردستان، الجيش العراقي هناك معلناً عن حضور بنفس الكثافة، وبنفس المعدات، ونفس الطريقة في القتال دليل على أن اندفاعه في تلك الجبهة لم يكن بسبب معنويات خاصة نسبها إليه أنصار الدفاع عن الوطن من العراقيين، فها هو يواصل في كوردستان حروبه الاجرامية بكل بشاعتها، كنت أقول لهم إن هذا الجيش سيقوم بنفس المهمة حين يكلف بالهجوم على بيوتكم.
إن ما يجري في هذه الأيام يتحدى الخيال. ولا يعبر عنه بقاموس. أشعر بالعي وصعوبة الكلام، أبحث عن مفردات مطابقة وتتعذر علي، صدقوني أني بحثت لعلي أجد ما يساعدني على تحرير وصف لما يجري في كوردستان العراقية فلم تسعفني اللغة. إن الإفادات التي أدلت بها منظمة العفو الدولية وبعض الحكومات في أوروبا قد عبرت عن الدهشة. غير أنها لم تدخل في عمق المفارقة. كيف يكون هذا الجيش؟ كيف يكون هذا الرجل الذي يعطيه الأوامر؟ إن الجنود العراقيين يجتازون في هذه الساعات الحدود التركية ليصبوا حمم مدافعهم على مخيمات اللاجئين الكورد. هل سمع أحد بهذا من قبل؟ إن اللاجئين ما أن يجتازوا حدود بلادهم حتى يصبحوا آمنين بحكم الأعراف الدولية، أما ملاحقتهم وراء الحدود، وهم مجرد لاجئين، وبعد أن يكونوا قد سكنوا الخيام، لاستكمال إبادتهم فهذا من خصوصيات جيشنا وقائده العام. لقد أمست الهمجية التركية بعراقتها في العدوان على شعبها والشعوب المحكومة بها ملاذاً لهؤلاء النازحين ولولا جبن هذا الجيش وخوفه من الأتراك لكانت المخيمات الكوردية قد امحت من الوجود الآن.
يهجم الجنود العراقيون على القرى الكوردية لينفذوا خطط إبادة منظمة، كما تقول حرفياً منظمة العفو الدولية في موقف استثنائي خرجت به على لغتها الإنجليزية المحايدة. هذه القرى الوديعة، البسيطة، المتصوفة في زوايا الجبال طالما فاضت على العراقي باللبن والعسل واستقبلته بنداء كاكه الذي يعني عند الكورد أنك آمن على نفسك ومالك وكرامتك الشخصية، فالكوردي العادي هو مثل سفوحه الخضراء لا يصدر عنه إلا الطيب، حتى لصوصهم وقطاع الطرق منه يسلكون من القيم الأخلاقية ما لا تملكه أكثر الجيوش تحضراً.
يمسحها الجندي العراقي بحذائه المحمل بالغاز السام، ثم يجمع ما يتبقى فيها من الأطفال والأمهات والجدات حتى يتمتع برؤيتهم وهم ينامون كالفسائل المقطوعة تحت أخامص بنادقه الرشاشة، لم يتردد الجندي عن أداء هذا الدور، لم يأخذه الندم، ولم يسأل الطيار نفسه على من يرمي قنابله الكيمياوية، ناهيكم عن أن يفكر بالنزول بطائرته في بلد آخر لكي يكتسب الجنسية البشرية ويعلن للعالم حقيقة ما يجري في هذا البلد العجيب، كلا أبداً، بل أقولها عن تثبت، ونحن أبناء قرية واحدة كما يقول المثل العراقي، إنه سيعود بعد أن يفرغ حمولته على غرف نوم الكورد ليحدث زوجته أو عشيقته عن بطولته لذلك اليوم.
أيها الطفل الكوردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه أو في ساحة لعبه، هذه براءتي من دمك أقدمها لك، معاهداً إياك ألا أشرب نخب الأمجاد الوهمية لجيوش العصر الحجري، ولا أمد يدي إلى واحد من أنظمة العصر الحجري، أقدمها لك على استحياء، ينتابني شعور بالخجل منك ويجللني شعور بالعار أمام الناس أني أحمل نفس هوية الطيار الذي استبسل عليك وليت الناس أراحوني منها حتى يوفروا لي براءة حقيقية من دمك العزيز أنا المفجوع لك، الباكي عليك في ظلمات ليلي الطويل، في زمن حكم الذئاب البشرية الذي لم نعد نملك فيه إلا البكاء.
اقبلها مني أيها المغدور: فهي براءتي إليك من هويتي.
23.8.1988
هادي العلوي
مفكر وكاتب عراقي راحل، ولد في بغداد سنة 1932 وتوفي في دمشق عام 1998. تميز بمواقفه المؤيدة للقضية الكوردية وألف العديد من الكتب المثيرة للجدل