حماية الذاكرة القومية
حماية الذاكرة القومية

في مركز ۯين، وهو مؤسسة غير ربحية مكرسة للحفاظ على التاريخ والتراث الكورديين، لا يتم ادخار أي جهد وكل التفاصيل مهمة. وكما يقول القائمون عليه، فإنه بمثابة مستودع تاريخي للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية في كوردستان، وهو “حارس الذاكرة الوطنية الكوردية” حسب قول رفيق صالح، مدير مركز ۯين وأحد مؤسسيها. يقول المدير: "نقوم بجمع كافة الوثائق والأدلة المتعلقة بالكورد. ورغم أن مركزنا يقع في السليمانية، إلا أنه ملك لجميع أبناء كوردستان بأجزائها الأربعة".

حرفة دقيقة

بغية الحفاظ على مكتبة من المخطوطات والصور والتسجيلات الصوتية والمرئية والسجلات المكتوبة المتعلقة التراث الكوردي، يستخدم المركز إجراءات شاملة ودقيقة لحماية الوثائق التاريخية باستخدام مجموعة من الخطوات المتخصصة، مثل المسح الضوئي والميكروفيلم والحفظ والترميم. تحتوي مجموعتها على كتب ووثائق يعود تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين أو حتى قبل ذلك.

الهدف الأساسي في قسم المخطوطات هو الحصول على الوثائق التاريخية التي وضعها مؤلفون مشهورون من العرب والفرس والأتراك والكورد ومن ثم تجميع المسارد والفهارس لتلك المخطوطات، مما يضمن تصنيف كل مخطوط بدقة ضمن مجموعته الخاصة.

قال رئيس القسم علي وهاب: "نفعل ذلك لأننا نريد أن نعرف موضوع المخطوطة، وفي أي مجال يمكن تصنيفها، ومن كتبها، ومن أعاد كتابتها، وكم عدد صفحاتها، وكم عمرها".

ونظرًا للتأثير الجيوسياسي العميق للإسلام على كوردستان فإن جزءًا كبيرًا من المخطوطات يدور حول التاريخ والعلوم الإسلامية، وهناك مجموعة متنوعة من المواضيع التي تغطيها هذه الوثائق، بما في ذلك مجالات الطب وعلم الفلك والهندسة والفلسفة والعلوم والأدب.

يحتل الأدب أيضًا مكانًا مهمًا في المجموعة لا سيما أعمال أدباء كورد مشهورين مثل رفيق حلمي ونجم الدين ملا وبيره مرد وتوفيق وهبي والشيخ محمد خال وعبد الكريم مدرس.

وبالإضافة إلى هذه الأعمال، لدينا دواوين نالي ومحوي، والتي أعاد كتابتها بعض الكتاب المشهورين. ولدينا أيضاً بعض الكشاكيل الفريدة من نوعها من القصائد الكوردية والفارسية والتركية، إحداها تقع في 700 صفحة. قال وهاب: "لدينا نسخة من كشكول محمود باشا الذي كتب قبل عام 1900".

وبحسب سجلات المركز، فإنه يوجد نحو 1388 مخطوطة موزعة على 800 مجلد محفوظة داخل منشآت مركز ۯين. يعود تاريخ قسم كبير من تلك المخطوطات إلى 250 إلى 300 عام، وبعضها نادر للغاية ويعود تاريخها إلى 400 عام.

يعمل قسم المخطوطات بتعاون وثيق مع قسمين آخرين هما قسم المسح الضوئي وقسم الحفظ والترميم. تتضمن الخطوة الأولى إرسال المخطوطات إلى قسم الحفظ والترميم، وهو مختبر متخصص يعمل به متخصصون مدربون. وهناك، تخضع المخطوطات لعملية تنظيف وترميم دقيقة لمعالجة أي ضرر ناجم عن سوء التعامل السابق أو التخۯين غير السليم.

بعد ذلك، يتم نقل المخطوطات إلى قسم المسح الضوئي، حيث يتم مسحها ضوئيًا لسهولة الوصول إليها عبر الإنترنت. وقد قام المركز بتطوير هذه التقنية لتسهيل وصول الباحثين والأكاديميين إليها، مما يسمح لهم باسترجاع هذه المخطوطات القيمة واستخدامها بسهولة في أعمالهم وأوراقهم العلمية.

الشغف بالماضي

بدأ وهاب، البالغ من العمر 29 عامًا، عمله كمتطوع في مركز ۯين في عام 2017 ثم انتقل بعد ذلك إلى موظف بدوام كامل. خلال أيام دراسته الجامعية، قام بزيارات منتظمة إلى المركز للحصول على وثائق ومخطوطات محددة لأبحاثه الأكاديمية في الدراسات الإسلامية في جامعة السليمانية.

يقول وهاب: "بعد لقائي ببعض الأشخاص في المركز، عرفوا قدراتي واعتقدوا أنني يمكن أن أكون مفيدًا، لأنني منذ نعومة أظفاري شغوف بالتاريخ بشكل عام وتاريخ الكورد والعلماء الكورد بشكل خاص، لهذا السبب أحبوني وأعطوني هذه الوظيفة، وما زلت أستمر بشغف لأن ما أقوم به مهم للأجيال القادمة".

لدى افتتاحه في 2004 كان المركز صغيراً جداً ويقع في نزل صغير في السليمانية. قام بتأسيس المركز رفيق صالح وشقيقه صديق، الذي يدير الآن أقسام النشر والتدقيق في المركز.

يتابع رفيق صالح: "من الممارسات الشائعة هنا أنه عند إنشاء مؤسسة، يجب أن يكون لديها عدد كبير من الموظفين حتى يمكن الاعتراف بها كمؤسسة بارزة. لكننا فكرنا بشكل مختلف. لقد بدأنا بشكل متواضع للغاية، مع التطلع إلى ضرورة الاستمرار. بدأنا في منزل مستأجر، وكان واجبنا الأساسي هو نشر الكتب فقط."

اسم المركز غني بمدلولاته، حيث تعني كلمة "ۯين" في اللغة الكوردية، الوجود أو جوهر الحياة. تسمية المركز بـ "ۯين" يحمل بعداً رمزياً أيضاً يتمثل بمهمة بث حياة جديدة في الكتب القديمة وغيرها من المواد الهامة. كما أنها إشادة وتقدير لمجلة ۯين التي صدرت في إسطنبول بين عامي 1918-1919 باللغتين الكوردية والتركية. بالإضافة إلى ذلك، فهو احتفاء بصحيفة ۯين التي أسسها الشاعر والصحفي الكوردي الشهير پيرەمێرد، في السليمانية عام 1939. واستمرت الصحيفة في الصدور حتى بعد وفاته، لغاية 1963 بمجموع 1714 عدداً.

مستودع رقمي

ولم يحقق المركز انطلاقته الحقيقية إلا في عام 2009. عندما زودته بلدية السليمانية بمبناها الحالي المكون من أربعة طوابق، والذي يضم مكتبة كبيرة تتكون من أربع فئات: المجموعة الأساسية، ومجموعة الدوريات، ومجموعة الكتب النادرة، والمجموعات الشخصية لعلماء الكورد والعراقيين المشهورين.

ويقول صالح: "يقع واجب الحفاظ على التاريخ الكوردي على عاتق الحكومة، لكننا أخذنا ذلك على عاتقنا".

ويعتقد أن مكتبة المركز أحد أغنى المكتبات في إقليم كوردستان العراق، إذ تحتوي على ما بين 70 ألفاً إلى 80 ألف عنوان باللغات الكوردية والتركية والفارسية والعربية والإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية، وقد تمت حفظ معظمها رقمياً. وقال صالح "نحن نعطي الأولوية لرقمنة الكتب القديمة التي تعود إلى القرن التاسع عشر حتى الثمانينيات للحفاظ عليها وحتى يتمكن الناس من الوصول إليها، وقد تمكنا حتى الآن من رقمنة أكثر من 1000 كتاب كوردي".

من ضمن المجموعة الكبيرة للمركز ثمة سجلات ووثائق تاريخية هامة تتعلق بالشعب الكوردي. وتشمل تلك الوثائق على مواد عن الثورات الكوردية في القرنين التاسع عشر والعشرين في جميع أنحاء كوردستان الأربعة (العراق وتركيا وإيران وسوريا)؛ ووثائق عن الأحزاب السياسية الكوردية؛ وسجلات حزب البعث؛ وعلى وجه الخصوص، وثائق من الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت الأراضي الكوردية لأكثر من خمسة قرون.

يحتفظ قسم السجلات بالمستندات المكتوبة والصور والمواد الصوتية والمرئية. وتقع مسؤولية تنظيم وجمع المستندات المكتوبة على عاتق كرمانج ضرار، وهو موظف في المركز يبلغ من العمر 25 عامًا.

تخضع الوثائق لذات الإجراء الذي تتبعه المخطوطات، ودور ضرار هو تصنيف هذه المواد حسب فئاتها الخاصة. وتتضمن عملية التصنيف المنهجية هذه أن تكون الوثائق منظمة بشكل جيد بحيث يمكن استرجاعها بسهولة عند الحاجة إليها من قبل الباحثين.

يقول ضرار: "لقد تمكنا من جمع الوثائق من عام 1900 إلى عام 2003، وأقدمها هو مرسوم رسمي من الامبراطورية العثمانية لشخصيات كوردية مهمة". ويضيف: “لدينا أيضًا وثائق تتعلق بالحكم البريطاني في العراق وتاريخ البلاد من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري. تم جمع كل هذه الوثائق من قبل المركز أو تم استلامها من عائلات مهمة في إقليم كوردستان العراق.

انضم ضرار إلى فريق عمل المركز عام 2020 بعد تخرجه من قسم التاريخ في جامعة السليمانية عام 2019. ويوضح أن عمله في المركز يتماشى بشكل وثيق مع خلفيته الأكاديمية، وهذا ما يغذي شغفه بعمله اليومي. وهو يعتقد أنه يساهم في تحقيق هدف أكبر هو حماية التراث الكوردي.

تضافر العمل الجماعي 

جيا صديق، 30 عامًا، هي موظفة أخرى تعمل في المركز، مسؤولةٌ عن جمع المواد الصوتية والصورية والمرئية التي تتعرف من خلالها على الشخصيات الثقافية والسياسية المهمة. يمكن أن تكون هذه المواد عبارة عن مقاطع فيديو VHS أو أشرطة كاسيت أو أفلام فوتوغرافية. هناك 700-800 صورة محفوظة في هذا القسم.

تقول جيا “أقوم بتحليل كل التفاصيل من كل صورة أو مقطع فيديو حتى أتمكن من التعرف على الشخصيات السياسية الكوردية التي لا يمكن التعرف عليها في مقاطع الفيديو أو الصور الأخرى. لذلك، كل مادة لها أهمية”.

يوظف المركز 15 فردًا فقط ويتلقى منحة حكومية شهرية دائمة تبلغ حوالي 15 مليون دينار عراقي (أي ما يعادل 9500 دولار). وعلى الرغم من انقطاع التمويل تمامًا من عام 2014 إلى 2018 بسبب الأزمة الاقتصادية التي أثرت على إقليم كوردستان العراق، إلا أن المركز تمكن من تحمل تلك النكسة بفضل إدارته الحكيمة والأموال التي تم توفيرها مسبقًا. وقد حصل المركز أيضًا على دعم من الأفراد من خلال التبرعات واستفاد من ترميم المرافق التي قدمتها شخصيات حكومية مختلفة، من بينهم محافظ السليمانية.

يعتقد رفيق صالح اعتقادًا راسخًا أن نجاح المركز يعتمد على تضافر العمل الجماعي والإدارة السليمة. وهو يتصور توسيع أنشطة المركز في المستقبل لاستيعاب قوة عاملة بالمئات، وهو هدف واثق من إمكانية تحقيقه عندما يقوم المركز بتوسيع عملياته. ويتوافق هذا الهدف أيضًا مع قناعته بأنه يجب أن يكون لدى العدد المناسب من الموظفين بما يتناسب مع احتياجاتها التشغيلية.

ويقول صالح "إن مفتاح نجاحنا هو أن كل موظف يعمل بما يعادل أربعة إلى خمسة أفراد بالتعاون مع فريق إداري فعال. ومع توسع عملنا وتحسين وضعنا المالي، نتوق أن نرى ما بين 200 إلى 300 شخص يعملون هنا لاستعادة تاريخ أمتنا والحفاظ عليه بشكل جماعي."


کاکە لاو عبد الله

صحفي مستقل مقيم في السليمانية. له مساهمات متميزة في عدد من المنصات الإعلامية المحلية والدولية. وهو متخصص في كتابة التقارير عن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية من داخل إقليم كوردستان. 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved