السمات العامة للعمارة الكوردية
السمات العامة للعمارة الكوردية

تعد العمارة أحد أهم أوجه الثقافة المحلية، لأنها تبرز حسياً الملامح الفنية والحضارية للشعوب والأمم. كانت تصنف فناً من الفنون المكانية إلى أزمنة قريبة. تطورت وتفاعلت مع العلوم الهندسية الأخرى، حتى باتت منتجاً صناعياً، وأحد أهم ثمار حركة الحداثة والتصنيع. وخضعت من زاوية تقنية لقوانين الهندسة الانشائية بشكل حاد في العقود الأخيرة.

 تأتي أهمية العمارة أيضاً من كونها تشكل الهيكل المادي الحاضن للمجتمعات البشرية، وتصيغ البيئة الاصطناعية لتحقيق الراحة والسعادة للسكان. تظل العمارة إبنة الاستقرار والازدهار، وتتشابك بعلاقة وثيقة وعضوية مع البيئة الطبيعية. تتمتع العمارة كوعاء يحتضن الإنسان بحساسية زائدة تجاه المتغيرات المناخية، لدرجة أنها ساهمت ضمن علاقة تفاعلية في صياغة البيئتين الطبيعية والاجتماعية معاً، حيث أنها تتفاعل مع المناخ والجغرافيا والطبوغرافيا عبر الأزمنة. حتى باتت أحد خصائص وأسس هوية المجتمعات القديمة التي كانت تحتضنها.

وعلى اعتبار أن المجتمعات الكوردية هي من أقدم المجتمعات في الشرق الأدنى، وقد حافظت على هويتها الثقافية بشقيها الفكري والمادي طوال آلاف السنين. لذلك أنتجت هذه المجتمعات عمارة خاصة بها، تلك التي أضفت المزيد من الخصوصية والتميز على الهوية الثقافية والمادية للمجتمعات الكوردية الراسخة.

نظراً لتبلور المجتمعات الكوردية و انبثاقها من مجموعات إثنية قديمة ومستقرة في الهلال الخصيب وعلى سفوح جبال زاغروس وطوروس، فقد ورثت ثقافاتها المادية، وبالتالي تعد عمارة كوردستان استمرارية لعمارة المجتمعات القديمة التي سبقت تسميات وتوصيفات:كورد وكوردستان.

 ولعل أقدم هذه المجتمعات المنظمة هي تلك التي ظهرت وتبلورت في أواسط الألف السادس ق. م في شمال ميزوبوتاميا، نمت وتوسعت شرقاً حتى منطقة كركوك الحالية. وقد عرفت، واصطلحت على تسميتها بالمجتمع الحلفي، وعرفت عمارتها بعمارة حلف (نسبة الى تل حلف بالقرب من مدينة رأس العين في غربي كوردستان). وقد أنتجت هذه المجتمعات – المرحلة فخاراً مميزاً، ونمط معماري عرف بنموذج المفتاح أو ثولو (Tholos). اصطفت هذه المساكن حول شوارع مرصوفة بالحجارة ضمن تجمعات سكنية كبيرة، قد تكون أكثر تطوراً من معظم القرى القديمة التي سبقتها في الجوار.

ورثت هذه الحضارة – المرحلة تراثها المادي المعماري لحضارات لاحقة خاصة للمملكة الهورية – الميتانية التي امتدت من نهاية الألف الثالثة وحتى أواخر الألف الثانية قبل الميلاد. وقد تمايزت فيها عمارة القرى عن المدن بشكل حاد، حيث نشأت فيها المدن المسورة على أطراف الأنهار. كانت المدن في المرحلة الهورية – الميتانية ذات أسوار يتمركز داخلها اكربول يحتضن القصر كمركز للحكم الدنيوي والمعبد كمركز للحكم الديني. وكان أبرزها العاصمة اوركيش بين مدينتي قامشلو وعامودا حاليا"، وآلالاخ في سهل العمق على نهر عاصي قرب ساحل البحر الأبيض المتوسط... وتاييدوا على نهر هرماس (جقجق) جنوب مدينة القامشلي.

 أما الانعطافة الكبرى في مسار العمارة الكوردية فحدثت مع بداية تشكل المملكة – الإمبراطورية الميدية في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، التي أضافت عناصر ومكونات جديدة على العمارة التاريخية في أرض كوردستان القديمة، ومن المفترض أن المملكة الميدية كانت دولة تأسيسية لكيان الأمة الكوردية الحضاري من كافة النواحي، ومنها العمارة.

تطورت العمارة في كوردستان بعد تأسيس العاصمة أكباتان في موقع همدان الحالية بكوردستان الشرقية. وكانت علامة حضارية وسياسية فارقة في تاريخ المجتمعات الكوردية. حيث أفصحت مادياً وعمرانياً عن خصوصية مجتمعات كوردستان القديمة، هذه الخصوصية التي ترجمت في ضعف الاهتمام بالمعابد والمنشآت الدينية، والاقتصار على معابد النار الصغيرة الموزعة برمزيتها على سفوح وذرى الجبال. كما عبرت المجتمعات الكوردية المنتجة عن خصوصيتها الفلاحية وثرائها المادي، عندما حل المستودع محل المعبد إلى جانب القصر في مركز أكباتان. وقد وصف هيرودوت Herodotus العاصمة أكبتان كما يلي: "وانصاع الميديون لأوامره، مرة أخرى، فبنوا المدينة التي تعرف اليوم باسم أكباتان، ذات الأسوار الحصينة المنيعة، والتي تطاول السماء في دوائر لولبية، بعضها فوق بعض. أما المخطط فيقوم على أن يعلو كل سور عن السور الذي قبله. وكانت الأرض الذي قامت عليها المدينة، وهي تل مرتفع، يناسب هذا المخطط الى حد ما، الا أن الأصل في منعة المدينة هو فن العمارة التي اعتمدت. وقد بلغ عدد الدوائر سبعاً، يقع القصر الملكي والمستودعات في آخرها. ودوائر السور الخارجي تكاد تطابق دائرة سور أثينا، والحجارة عند جدار هذا السور بيضاء، يليها صف من الحجر الأسود فالقرمزي فالأزرق والخامس برتقالي، وهذه الصفوف مطلية بالدهان. أما الصفان الأخيران من حجارة الجدار فمطليان بالفضي والذهبي. وقد شيد ديوسيس هذه التحصينات كلها حماية لنفسه وقصره. وأما عامة الشعب فكان عليهم أن يقيموا مساكنهم خارج دائرة الأسوار." (هيرودوت، 2001، ص79)

وبعد هيرودوت أشار الجغرافي الروماني سترابو الذي كان من سكان مملكة كوماجينا المجاورة تماما لمناطق شمال غرب كوردستان إلى كثرة الحصون والقلاع والمدن في وسط كوردستان، التي كانت تسمى نواتها ب (كوردويين) عهدئذ: "وتقع على مقربة من الفرات مناطق الغورديين الذين دعاهم الأغريق كاردوخي، وكانت مدنهم هي: ساريسا، وساتالكا، وبيناكا، وهي قلعة قوية فيها ثلاثة اكروبوليسات يحيط بكل منهما سور، فتبدو كأنها تشكل مدينة ثلاثية. ولكن هذه المدينة الأخيرة لم يخضعها الملك الأرمني فقط، بل استولى عليها الرومان عنوة أيضا، غير عابئين بأن الغورديين من أكثر الشعوب مهارة في بناء التحصينات وأكثر خبرة في صناعة آلات الحصار، ولذلك هم الذين كانوا يؤدون هذه الأعمال لدى تيغران..." (سترابو، 2017، ص304)

يفصح نص سترابو عن مهارة الحرفيين والبنائين في كوردستان، سواء في حقل بناء المدن والأسوار، والقلاع والحصون، وحتى آلات الحرب.

وفي مراحل لاحقة، وخاصة بعد الغزو العربي الإسلامي لمناطق كوردستان، تكشف كتب الجغرافيين والمؤرخين المسلمين عن غنى عمراني ومعماري في عموم مناطق كوردستان، سواء الجبلية منها أم السهلية. وقد كانت من أوائل المدن الكوردية التي تعرضت للتعريب وخضعت للهيمنة العربية، هي الأنبار (التي تعني مخازن الحبوب وكانت فيها مخازن الحبوب العائدة للإمبراطورية الساسانية)، وكذلك حلوان في شمال شرق بغداد. فضلاً عن آمد، وميردين، وقرماسين (كرمنشان)، وغيرها من مئات المدن والبلدات العامرة والجميلة.

ان عمق جذور المجتمعات في كوردستان واستمرارية حياتها الحضرية والريفية المنظمة والمنتجة للخيرات المادية منذ أكثر من عشرة آلاف سنة حققت تراكما في الخبرات، أغنت عمارة كوردستان، وانتجت أجيالاً وأنماطاً تاريخية متعاقبة ومتنوعة منها. كما أن هذه الاستمرارية عبر الزمن المديد، والانتماء إلى الجغرافيا والبيئة المحلية قد جعلتها ذات حساسية عالية اتجاه المتغيرات البيئية والمناخية وكذلك الاجتماعية. مما أضفى عليها غنى وتنوعاً وجمالاً قلما يتوفر في جغرافية وبلدان أخرى. وتجنباً للتوسع، يمكن الإشارة الى السمات العامة للعمارة في كوردستان، وتصنيفها على الشكل المختزل التالي:

أولاً: الإطار التصنيفي الاجتماعي:

  1. عمارة ريفية ما قبل حضرية واسعة الانتشار
  2. عمارة حضرية انبثقت عن الريفية وتجاوزتها وظيفياً

ثانياً: التصنيف بحسب الجغرافيا والطبوغرافيا:

  1. عمارة السهول
  2. عمارة الجبال

تفرعت عن هذه الأخيرة نمط معماري وعمراني يمكن وصفه بالعمارة الدفاعية، وهي سمة غالبة على العمارة الكوردية القديمة، تعبر عن طبيعة المجتمعات الكوردية القديمة المنتجة للخيرات المرتبطة بالأرض والمتحفزة للدفاع عنها. لدرجة أن اسم البرج الكوردي القديم قد انتقل الى عدة لغات أوربية، منها (Burg) الألمانية. وتتوزع العمارة الدفاعية على:

  1. الحصون والقلاع
  2. المدن المحصنة ذات الأسوار كمدينة آمد (دياربكر)، وأربيل - هه ولير.

كما أغنت وفرة مواد البناء المحلية نمط العمارة الكوردية التي غلبت عليها طبيعة مادة البناء:

  1. المواد الترابية في السهول، أو ما عرفت بالبيوت الطينية في أقدم الحضارات مثل الحورية – الميتانية في الألف الثانية قبل الميلاد. ومدينة السليمانية المعاصرة التي أسست قبل أكثر من قرنين، وقامشلو التي شيدت قبل حوالي قرن. 
  2. المواد الحجرية، التي شيدت بها أغلب مدن سفوح جبال كوردستان، وكذلك الأسوار والحصون. وكنموذجين مميزين، نذكر بمدينة ماردين، وآكري. 

رابعاً: التصنيف بحسب شكل المفردات المعمارية

  1. السقف، تتميز العمارة الكوردية الجبلية بسيطرة وهيمنة السقف – السطح على شكلها وتصميمها، فأسقف العمارة الكوردية مسطحة ومتينة، شيدت من الخشب والطين المدحول بواسطة مدحلة (Banger) خاصة في المناطق الجبلية. حيث تقتضي المساحات الضيقة في السفوح وأعالي الجبال توظيف السطح كفراغ خدمي ومساحة إضافية، وأحياناً تستخدم كشوارع لخدمة باقي المساكن، كما في حالة قرى وبلدات هورامان التي تعبر عن هذه الخاصية بدقة.
  2. الواجهات الجنوبية ذات الفتحات الواسعة لالتقاط الضوء وأشعة الشمس في أغلب أيام السنة الباردة.
  3. استخدامات الحجر والرخام بكافة أنواعه، ومختلف طرائق بنائه.
  4. يحتوي المنزل الكوردي في داخله على موقد صغير في السهول، وعلى فرن في المناطق الجبلية الباردة، حيث يتخذ كسرير في ليالي الشتاء الباردة.
  5. للعمارة الكوردية خاصية ومرونة تكيفت مع التشييد فوق المنحدرات وسفوح الجبال سواء في الريف أم المدينة. 

ختاماً نقول إن العمارة في كوردستان استمرت في الحفاظ على خصائصها وسماتها الوظيفية والجمالية، وطورتها عبر آلاف السنين، وإن تأثرت بمؤثرات دينية واجتماعية وافدة كالإسلام على سبيل المثال. علماً أنها لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل، على الرغم من محاولات بعض المستشرقين والرحالة الذين وصفوها بشكل عابر، أو وضعوا لها تخطيطات ولوحات لتزين مؤلفاتهم.


د. آزاد أحمد علي

مدرس تاريخ العمارة وتقنيات البناء في عدد من الجامعات السورية


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved