كنوز كوردستان الأثرية تبهر العالم شعب «الزهور الأول»... مهد الثورة الزراعية واستقرار الإنسان وتحضره
كنوز كوردستان الأثرية تبهر العالم شعب «الزهور الأول»... مهد الثورة الزراعية واستقرار الإنسان وتحضره

تتولى الاكتشافات الأثرية المهمة في أرض كوردستان لتثبت للعالم أجمع المزيج الحضاري الفريد الذي شهده الإقليم، وكونه كان منطلقاً للبواكير الأولى لاستقرار الإنسان وتحضره، والثورة الزراعية، فضلاً عن ريادته في مجالات حياتية وصناعية وخدمية عديدة، منها بناء البيوت، واستعمال نظم الري والصرف الصحي.. أكثر منذ لك كان «شعب الزهور الأول».

ولتسليط الضوء على جوانب من الاكتشافات الأثرية التي شهدها الإقليم مؤخراً، كان اللقاء بعالم الآثار الكوردي البروفيسور د. كوزاد محمد أحمد، الذي حدثنا عن كشوفات أبهرت العالم، وأكدت ريادة الأقوام التي سكنت المنطقة في العديد من الأمور، متوقعاً كشف المزيد من الحقائق والأسرار التاريخية تباعاً، لاسيما أن أعمال التنقيب والدراسة تتواصل في العديد من مناطق الإقليم.

مهد الثورة الزراعية

يقول العالم الكوردي، إن إقليم كوردستان «يعد جزءاً من الهلال الخصيب ويمتاز بتمتعه بالجبال والسهول وبوفرة الأمطار وإمكانية زراعة الحبوب الأساسية. لذلك كان من بواكير مناطق ظهور الزراعة في العالم ما قبل التاريخ حتى أن العالم الأسترالي كوردن تشايلد (GORDON CHILDE) الذي يعد من أساطين علماء الآثار العالميين المتخصصين بحقبة ما قبل التاريخ، يسمي اكتشاف الزراعة في كوردستان (كما في فلسطين)، بالثورة الزراعية. لأن الزراعة تشكل أول درجات سلم الحضارة والاستقرار وبناء البيوت والقرى ونظام العائلة، ومن ذلك انبثقت المدن ومن ثم الحضارات الناضجة»، ويشير إلى أن منطقة كوردستان «شهدت أول ظهور للقرى الزراعية وبواكير الحضارات، لذلك نجد أقدم القرى الزراعية بالمنطقة في قرية جرمو قرب جمجمال (60 كلم جنوب شرق مدينة السليمانية)، حيث أكتشف فيها علماء آثار أميركيون أقدم آثار لصناعة الفخار، تعود إلى 7000 سنة ق.م، فضلاً عن حلي (أساور وقلائد) مصنوعة من العظام والصدف والحجر، في حين عثر علماء الآثار اليابانيون في القرية مؤخراً، على أقد ملعقة طعام تعود تاريخه إلى ما قبل 7500 – 8000 سنة ق.م».

ويضيف الدكتور أحمد، أن علماء الآثار «اكتشفوا مؤخراً قرية أخرى أطلق عليها تسمية (بيستان سور) في منطقة شهرزور (35 كلم جنوب شرق مركز محافظة السليمانية)، أثبتت التحريات أنها أقدم من (جرمو)، كما عثر العلماء فيها على هياكل عظمية لأطفال وبالغين تمت معرفة طعامهم وأمراضهم وأسلوب حياتهم وتنظيمهم الاجتماعي، كما عثر فيها على أقدم أثر لشبكة صيد أسماك يعود إلى 8000 سنة ق.م».

شعب «الزهور الأول»

وقبل ذلك، يواصل العالم الكوردي قائلاً: ومن العصر الحجري القديم (منذ ظهور الإنسان وحتى ما قبل حوالي عشرة آلاف سنة قبل الميلاد) فقد «عثر علماء الآثار على أكبر مجموعة من الهياكل العظمية البشرية العائدة لإنسان (النياندرتال) في كهف (شانيدار) في جبال برادوست (5000 قدم عن سطح البحر) في محافظة أربيل»، ويلفت إلى أن أهمية ذلك «تعود إلى أن أحد الهياكل العظمية المكتشفة تخص شخصاً معاقاً يعاني من ضمور في إحدى ذراعيه عاش حتى بلغ من العمر 45 عاماً، وهو متوسط الأعمار حينها، مما يدل على أن زملاءه كانوا يعاونونه.. كما عثر الآثاريون في المنطقة ذاتها، على قبر دفن فيه شخص بعناية حيث أرقدوه كما الجنين في بطن أمه دلالة على فكرة البعث بعد الممات».

ويوضح الدكتور أحمد، أن العلماء «وجدوا على ذلك القبر إكليلاً من الزهور لذلك أطلقوا على المجموعة البشرية التي كانت تعيش هناك تسمية شعب الزهور الأول حتى أن عالم الآثار الأمريكي رالف سوليكي (RALPH S. SOLECKI)  الذي حقق ذلك الاكتشاف جعل من تلك التسمية عنواناً للكتاب الذي أصدره بهذا الشأن بعنوان (SHANIDAR THE FIRST FLOWER PEOPLE) خلال ستينات القرن الماضي».

وقبل خمسة أعوام، يتابع العالم الكورد،  «عثرت فرقة أثرية بريطانية في الكهف ذاته على هيكل عظمي كامل آخر ما يزال قيد الدراسة ما يؤكد على عراقة المكان ووجود البشر فيه منذ القدم لاسيما مع وجود جذور بعض العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية والمصنوعات»، وينوه إلى أن ذلك «يعكس مستوى أولئك البشر التقني في صناعة الآلات كالنبال والثاقبات والسكاكين المصنوعة من حجر الصوان وكذلك السلال والحصران».

امرأة النياندرتال كنز جيني

وبشأن الكشف عن وجه امرأة نياندرتال التي عمرها 75 ألف عام من قبل علماء جامعة كامبريدج، يقول د. كوزاد أحمد، إنه «يتمثل باكتشاف النصف العلوي من هيكل عظمي لامرأة في الأربعينات من عمرها، كان المنقب الأمريكي رالف سوليكي قد اكتشف بعض الأجزاء من نصفها السفلي أثناء تنقيباته في خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي»، ويستدرك لكن «اكتشاف هياكل أخرى كاملة جعلته يركز على البقية».

ويبين أن هذا الاكتشاف «جرى على يد آثاريين من جامعة كامبريدج خلال عامي 2017 و2018، وكانوا قدأعلنوا عن ذلك في وقتها»، ويلفت إلى أن الجديد في الأمر هو «إعادة تشكيل الوجه استناداً إلى الجمجمة وهو علم وفن حديث نسبياً يستخدم بكثرة من قبل المحققين الجنائيين للتعرف على الضحايا مجهولي الهوية أو الذين قُتلوا من مدة طويلة كما يستخدمه الآثاريون أيضا في مثل هذه الحالات».

ويرى العالم الآثاري الكوردي، أن المهم في الاكتشاف الجديد هو «سلامة العظمة التي يمكن استخراج الحمض النووي منها بشكل جيد ما سيؤدي إلى فك الشيفرة الوراثية الجينية لنياندرتال منطقة الشرق الأدنى»، وينوه إلى أن تلك الشفرة تعد «غامضة نسبياً إلى الآن نتيجة عدم العثور على آثار مماثلة في بلدان المنطقة الأخرى لاسيما أن التطور التقني في خمسينات القرن الماضي لم يكن يسمح بذلك مع الهياكل المكتشفة في كهف شانيدار وقتها».

يذكر أن وحدة العلوم في استوديوهات هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، عرضت مؤخراً فيلماً وثائقياً عن قيام فريق مشترك من جامعتي كامبريدج وليفربول بإعادة تشكيل وجه أنثى إنسان نياندرتال تبلغ منرالعمر 75 ألف عام، تم اكتشاف جمجمتها المسطحة في كهف شانيدار، وإعادة بنائها من مئات شظايا

العظام، ما يؤكد الأهمية التاريخية والآثارية لتلك المنطقة.

أقدم بيوت وقنوات ري

ولاحقاً عثر علماء الآثار، قرب الكهف، والحديث للبروفيسور كوزاد محمد أحمد، على «أقدم أثر لجدار بناه الإنسان في موقع (زاوي جمي شانيدار) على ضفة نهر الزاب (ثاني روافد نهر دجلة)، يعود تاريخه إلى ما بين 9 إلى 11 آلاف سنة ق.م»، ويؤكد أن ذلك «يدل على مرحلة خروج الإنسان من الكه واستقراره في ملاجئ أو بيوت بناها بنفسه لتكون مأوى له كما عثر العلماء في المنطقة ذاتها على حلي مصنوعة من العظام والحجر والصدف».

ويقول أحمد أيضاً، إن علماء آثار بريطانيون بقيادة روجر ماثيوس «عثروا قبل عامين على موقع يماثل ويعاصر موقع (زاوي جمي شانيدار)، أطلقوا عليه تسمية «زاوي جمي زرزي» ووجدت فيه بقايا حيوانات وآلات حجرية وما يزال التنقيب في الموقع جارياً كما عثر البريطانيون في موقع (جوغة مامي) قرب مندلي (من أقضية محافظة ديالى)، على أقدم قنوات الري ما يثبت خروج الإنسان القديم إلى خارج نطاق مناطق الزراعة الديمية».

وفي موقع (نمريك) جنوب دهوك، يبين العالم الكوردي، تمكنت بعثة آثار بولندية برئاسة (كوزلزفسكي)، في ثمانينات القرن الماضي، من «العثور على بيوت دائرية على شكل أسطوانات سميكة من الوسط ودقيقة من الأطراف مبنية من اللبن»، ويلفت إلى أن العلماء يعتقدون أنها «أصل اللبن المسمى الطابوق (المستوي ـ المحدب) الذي ظهر لاحقاً في بلاد سومر خلال عصر فجر السلالات (من عصور بلاد ما بين النهرين القديمة، بدأ حوالي سنة 2800 ق.م. واستمر لمدة ستة قرون)، كما عثر العلماء في الموقع ذاته على دمى حجرية تمثل رؤوساً بشرية وطيوراً يعتقد أنها لمعبوداتهم».

ويتابع البروفيسور كوزاد محمد أحمد، أن الآثاريين «عثروا في جرمو وكريم شاهر (قرب جمجمال) على الكثير من الدمى الطينية الصغيرة التي تمثل بشراً أو حيوانات من بينها واحدة لأقدم تصوير لوجه نسوي يعود إلى العصر الحجري الحديث (7000 سنة ق.م.)».

مدن ومستوطنات ومعابد

وقبل أقل من خمسة أعوام، وخلال التنقيبات في موقع (قلاتكاي دربند)، بين رانية وقلعة دزة (شمال محافظة السليمانية)، يقول البروفيسور الكوردي، إن العلماء «عثروا على مدينة قديمة تعود إلى العصر السلوقي والفرثي فيها أبنية ضخمة أحدها معبد مهم وتماثيل من المرمر بالأسلوب الهلنستي (خليط من اليوناني والشرقي) أحدها لبطل (مفقود الرأس) والآخر لامرأة جالسة وهي ترتدي ثياباً طويلة مشرشبة».

ويستطرد، أنه قبل سبعة أعوام، وفي موقع (لوكردان) إلى الغرب من جمجمال «عثرت بعثة أثرية فرنسية بقيادة المنقب (ريجي فاليه) على مستوطنة كبيرة من عصر الوركاء (حوالى 3800 ق.م)، فيها أبنية ضخمة تستخدم لأعمال إدارية مبينة من فخار يحمل خصائص محلية يعد أقدم بقليل من فخار الوركاء الجنوبي»، ويبين أن عالمة آثار فرنسية تدعى كيبنيسك (KEPINSKI) كانت تعمل في موقع (كوناره) الذي يقع في منطقة سهلية يمر فيها فرع من نهر تنجيرو (هو نهر صغير في محافظة السليمانية يبلغ طوله 58  كلم)، تمكنت من «العثور على مدينة من الألف الثالث قبل الميلاد تضم أبنية وأسواقاً وبيوتاً.. وعثر بعدها بثلاثة أعوام في الموقع ذاته عالم الآثار آلان تينو (TENU) على نصوص مسمارية ظهر من خلالها أن المدينة كانت مركزاً سياسياً وإدارياً واقتصادياً للمنطقة المحيطة وكان حاكم المدينة يحمل لقب أنسي (ENSI) وكانت النصوص توثق كميات الحبوب الداخلة للمدينة والخارجة منها وتواريخها وأنواعها واستخداماتها، علماً أن العمل يتواصل في الموقع حتى الآن».

قدم نظام صرف صحي

وفي موقع (ياسين تبه) بمنطقة شهرزور، بمحافظة السليمانية، وقبل عامين، يقول العالم الكوردي، عثر آثاريون يابانيون «على قصر ومركز إداري فيه قبر ملكي يضم تابوتاً كبيراً من الفخار وبعض المستلزمات والحلي البرونزية وفيها كتابات مسمارية تدل على كونها قدمت كهدية»، ويشير إلى أن الإيطاليين «عثروا في عام 2023 الماضي في بيكولي(PAIKULI)  بمنطقة قرداغ، شمال مدينة السليمانية، على نصوص جديدة تعود إلى نصب بيكولي التذكاري الذي يعود للملك الساساني (نارسه) شكلت إضافة مهمة جديدة إلى ما كان معروفاً من قبل».

وبشأن ورود أسماء منطق (شهرزور) و(گرميان) في اللقى الآثارية، يوضح أحمد، أن العمل «ما يزال متواصلاً لكشف خبايا تلك النصوص، التي تكمن أهميتها في كونها تضيف للتاريخ الساساني المبكر ما لم يكن معروفاً من قبل مثل كيفية تسلم الملك الحكم وكيفية تعامله مع منافسيه.. كما تضيف تلك النصوص للمعرفة الجغرافية أسماء المناطق في ذلك العصر والأقوام التي تسكنها، إذ ورد فيها مثلاً أقدم ذكر لاسم شهرزور بصيغة (سيار زور).. وكتب فيها اسم گرمايا للدلالة على سكان منطقة گرميان (منطقة في تضم أقضية كلار، كفري، جمجمال وخانقين) وغيرها كأسماء ملك الميديين وغيرهم ممن ساعدوه».

ويستمر العالم الكوردي قائلاً، إن الآثاريين «عثروا في موقع تل كوتان في منطقة فايدة (جنوبي دهوك) على أقدم نظام صرف صحي صنع من أنابيب فخار تحت أحد المساكن التي تعود إلى عصر نينوى الخامس (يُطلق عليها ذلك الاسم لأن آثارها اكتشفت أول مرة في الطبقة الخامسة من تل قوينجق في نينوى القديمة) على الساحل الشرقي لنهر دجلة، لكنها كانت سائدة في سائر مناطق إقليم كوردستان وبعض مواقع شمال شرق سوريا، وتعود إلى أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث ق.م».

خلاصة

يعد إقليم كوردستان منطقة تاريخية مهمة شكلت ملتقى للحضارات القديمة الكبرى، ومنطلقاً للثورة الزراعية، والبواكير الأولى لاستقرار الإنسان وتحضره، قبل أن ينضج في جنوب بلاد ما بين النهرين لاحقاً.. فضلاً عن كونه كان ممراً للثقافات وقوافل التجارة والجيوش.

بيوغرافيا

يذكر أن د. كوزاد محمد أحمد، حاصل على شهادة البكالوريوس عام 1989، والماجستير في الآثار القديمة من كلية الآداب جامعة بغداد عام 1993، وماجستير ثانية من جامعة لايدن (Leiden) التي تعد من أقدم جامعات هولندا عام 2012، والدكتوراه من الجامعة نفسها عام 2012، وعمل تدريسياً في جامعة السليمانية ومن ثم ترأس قسم الآثار في كلية العلوم الإنسانية بالجامعة، لعشرة أعوام قبل أن يعين مؤخراً، عميداً لكلية الفنون الجميلة بالجامعة.. وقد أشرف على العديد من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، وله عدة بحوث منشورة في مجلات علمية كوردية وعربية وعالمية، وألف كتابين وله مشاركات في مؤتمرات علمية عديدة.

 


باسل الخطيب

صحفي عراقي


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved