لا تفجروا الجبل
في المدن نجد البيوت جاهزة أو يبنيها آخرون. أنا وفالح عبد الجبار، (عالم اجتماع عراقي 1946 - 2018)، بنينا أول بيت لنا في جبال كوردستان في منطقة (نوزنك) المحاذية للحدود الإيرانية. بناة البيوت الجبلية أعطونا حكمتهم:
- لا تفجروا الجبل، هو سيهديكم صخوره!
- الحجارة تحب بعضها وما على البنّاء إلا أن يوالف قلوبها فترتفع سافاً فوق ساف. علمونا كيف نخلط عناصر الطبيعة، التراب والماء والحجر البركاني وأغصان الشجر.
قبيل الشتاء، حين نزل الحجل من الأعالي وأسرعت السناجب في تخزين الجوز، اكتمل البيت. هنا بدأ فالح يكتب (العمامة والأفندي)، وقاربت أنا على الانتهاء من كتابي (الفاشية.. الفكرة والممارسة).
بيت الكاتبيْن
الكتابة شغلتنا عن تحولات الطبيعة حولنا وعن الحرب التي تقترب منّا. بيتنا المعزول قليلاً سُمّي (بيت الكاتبين). حين نضع نقطة في نهاية فكرة نترك الورق والكلمات ونذهب إلى المدفأة ونمد أصابعنا إلى النار كما فعل أجدادنا الصيادون. قبيل الفصل الأخير، سمعنا ثلاث قذائف مدفعية شقت سكون الجبال المهيب في هذه المنطقة العصية على الجيوش. مددنا رأسينا من باب البيت. المشهد العريض كما هو، قمم (جبل مامَنْد) ضاعت في سحب رمادية والوادي غارق في الضباب. قبل أن نألف ثبات الطبيعة حولنا خطف أمامنا مقاتل في الحراسات المتقدمة، ذاهب ليبلغ القيادة:
- تقدم إيراني!
تتالت القذائف واقتربت. مع ذلك عدنا لدفاترنا فعاد الرسول ليبلغنا:
- انسحاب.. انسحاب.. انسحاب!
الهروب من الموت صوب المجهول
إلى أين؟ لا أحد يدري، لكن علينا مثل الآخرين أن نطوي بيتنا ونلم ضرورياتنا للانسحاب. الكتب لم تكن من الضروريات. المكّارون الذين احترفوا الحروب يعرفون لحظات الشدة فيرفعون أجور النقل إلى أضعاف أيام الهدنة. سرنا برؤوس منكسة غير آبهين بالمشاهد. كل هذه الجبال وقد حشرت رؤوسها في فكرة السحاب، الثلوج وهي تنضح الماء إلى كل شجرة نحتمي بها، الوديان التي تردد أصواتنا، القرى التي أفرغت من ناسها وكلما تبقى فيها يعكس حياة انقطعت لا تثبت في خيالنا. إنما تسيل ذاهبة إلى الخلف ونحن ندوس الأرض وأحزان الرحيل موهمين أنفسنا بأننا ذاهبون إلى المكان ولسنا مغادرينه.
عند حافة الرابية التفتت إلى الخلف. لا يزال بيتنا ينفث دخان المدفأة كأننا ما زلنا هناك! مررنا ببيوت خلت من أهلها. النار التي أُخمدت على عجل ما زالت تبعث خيطاً واهناً من دخان ورائحة الخبز عالقة في الهواء والريح تهز مهد الطفل الذي التقط على عجل.
أغنية قطعتها المدافع
على ممرات الجبل الضيقة التقينا قافلة الكورد الذين تركوا بيوتهم بعيداً عن الجيش المتقدم، حاملين أقل الأشياء، أطفالهم، دجاجاتهم، أغطيتهم، قدورهم، خبز الطريق. على واحد من البغال شيء لا يمت للحرب في الجبال القريبة، لا يمت للمتاع الرث، ولا للبغال التي تحمله ولا الطريق الوعر الذي تدوسه. غريب تماماً عما حوله: كمان في غلافه الجلدي الأنيق! بقيت عيناي عالقتين به: ما الأغنية التي قطعتها المدافع!؟
زهير الجزائري
كاتب وروائي عراقي