ندرة المصادر عن تاريخ الكورد
لا يوجد، على حد علمي، سوى النزر اليسير من الكتب المهتمة بجغرافيا وتاريخ كوردستان في القرون السالفة. وربما كان عددها يقل عن عدد أصابع المرء.
أما أول أثر قيِّم بقي إلى الآن عن تاريخ كوردستان فهو كتاب شرفنامه الذي انتهى من تأليفه سنة 1005هـ / 1596م الأميرُ شرفخان بدليسي. ونستطيع تسمية هذا الكتاب بالهوية الكوردية لأهميته القصوى. ويأتي ذكر الكورد في طيات الكتب التاريخية والجغرافية المتعلقة بالشعوب الأخرى ولكن ذلك يترافق دائماً بالاعتماد على الأساطير والكتابات المغرضة. فالمؤرخ المسعودي مثلاً حينما يتصدى لبيان أصل الكورد يقول: «وأما أجناس الأكراد وأنواعهم فقد تنازع الناس في بدئهم، فمنهم من رأى أنهم من ربيعة بن نزار بن معد، انفردوا في قديم الزمان وانضافوا إلى الجبال والأودية، دعتهم إلى ذلك الأنفة، وجاوروا من هناك من الأمم الساكنة المدن والعمائر من الأعاجم والفرس، فمالوا عن لسانهم وصارت لغتهم أعجمية، ولكل نوع من الكورد لغة لهم بالكوردية. ومن الناس من رأى أنهم من مضر بن نزار، وأنهم من ولد كورد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وأنهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان، ومنهم من رأى أنهم من ربيعة ومضر وقد اعتصموا بالجبال طلباً للمياه والرعي فحالوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم. ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام حين سُلِب ملكه ووقع على إمائه المنافقات الشيطان المعروف بالجسد، وعصم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعلق منه المنافقات (أي حملن منه). فلما رد الله على سليمان ملكه ووضعت تلك الإماء الحوامل من الشيطان قال سليمان: أكردوهن إلى الجبال والأودية (من كَرَد العدوَّ إذا طرده، والمكاردة هي المطاردة والمدافعة) فربتهم أمهاتهم وتناكحوا وتناسلوا فذلك بدء نسب الأكراد. ومن الناس من رأى أن الضَّحاك ذا الأفواه خرجت بكتفيه حيّتان فكانتا لا تتغذيان إلا بأدمغة الناس. فأفنى خلقاً كثيراً من فارس. واجتمعت إلى حربه جماعة كثيرة وافاه أفريدون بهم، وقد شالوا راية من الجلود تسميها الفرس درفش كاويان، فأخذ أفريدونُ الضحاكَ وقيده في جبل دنباوند، وقد كان وزير الضحاك في كل يوم يذبح كبشاً ورجلاً ويخلط أدمغتهما، ويطعم تينك الحيتين اللتين كانتا في كتفي الضحاك ويطرد من تخلص إلى الجبال، فتوحشوا وتناسلوا في تلك الجبال فهم بدء الأكراد».
أساطير عن أصل الكورد
ما يلفت النظر هنا أن المسعودي يعتبر الكورد حيناً من العرب، ومرة من نسل الشيطان، وتارة من الناجين من جور الضحاك وبطشه. كما تقول جماعة من المؤرخين العرب: «الأكراد طائفة من الجن كشف الله عنهم الغطاء».
أما الخواجه سعد الدين ابن حسين مؤدب السلطان العثماني مراد خان وصاحب كتاب «تاج التواريخ» باللغة التركية فإنه لا ينأى كثيراً عن قافلة المؤرخين الآخرين في تشويه اسم الكورد وأصلهم. فقد نقل عنه الأمير شرفخان ما يلي:
«إنه لما ذاع صيت النبوة المحمدية في الآفاق، ودوّى صدى الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم، واهتمت ملوك البلاد وسلاطين الممالك والأقاليم بهذه الظاهرة الجديدة، ورغبت في أن تتشرف بالخضوع إلى هذا السيد الكريم، وتقدم له الطاعة بكل إخلاص وحماس، أرسل أوغوزخان الذي كان من عظماء ملوك تركستان وفداً إلى فخر المرسلين وسيد الكونين والثقلين عليه السلام، وكان على رأس الوفد شخص يدعى بغدوز، كريه المنظر، قبيح الصورة، أسود الجلد. فلما وقع نظر النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المبعوث انزعج ونفر منه نفوراً شديداً. وعندما سأله الناس عن قبيلته وعشيرته قال: أنا من الكورد. فعندئذ دعا عليه النبي قائلاً: لا وفق الله تعالى هذه الطائفة إلى الوفاق والاتحاد. وإلا فإن العالم يهلك على أيديهم».
زيف بعض المرويات
الذي نلاحظه في الروايات السابقة أنها لا تملك أي قيمة تاريخية، وبإمعان الفكر قليلاً يدرك المرء زيفها. وخاصة الرواية الأخيرة للمؤرخ التركي الذي يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على الكورد جميعاً بعدم الوحدة بسبب نفوره من منظر مبعوث أوغوزخان، في حين أن إحدى خصال الإسلام هي محاربة التمييز العنصري. والتقوى وحدها تقرب العبد إلى الله وليس حسن الصورة وجمال الهيئة. وإلا فكيف نال بلال الحبشي الأسود تلك الحظوة عند رسول الله؟ لقد ركز الأنبياء جميعاً على أفعال الإنسان من دون النظر إلى أشكالهم. وكانوا يدعون الله دائماً أن يصلح أحوال عباده ويهديهم. إن الكذب على رسول الله ليس شيئاً مستحدثاً لأن خصوم الإسلام اختلقوا روايات كاذبة وأكثروا من الإسرائيليات وادعوا أنها أحاديث نبوية. ولحسن الحظ فقد نهض المحدثون المسلمون وبينوا زيف تلك المرويات.
لقد راجت الوقائع المزيفة عن الكورد في مختلف أدوار التاريخ. والمؤرخون من غير الكورد تحدثوا بشح عن الخدمات التي أسداها الكورد إلى الإسلام والثقافة العالمية. ولم يريدوا أن يكتبوا أن أبناء ابن الأثير والدينوري والشهرزوري والسهروردي وابن الحاجب وابن خلكان وأخيراً الشيخ محمد عبده ومحمد كورد علي والمفتي أمجد الزهاوي وغيرهم قدموا خدمات عظيمة وجليلة للتاريخ والمعارف الإسلامية والعالمية.
كيف يدعو رسول الله على قوم أنجب صلاح الدين الأيوبي الذي دحر الصليبيين وقضى على فسادهم بحسن تدبيره وسياسته وجعل العالم الإسلامي رهن مروءته وتضحياته؟
مؤرخون كورد يصححون المغالطات
لحسن الحظ أيضاً فقد ظهر في القرن العاشر الهجري الأمير شرفخان البدليسي وأخيراً برز كل من المؤرخين الكورد محمد أمين زكي وحسين حزني موكرياني والشيخ محمد مردوخ ورشيد ياسمي وتوفيق وهبي ورفيق حلمي وعلاء الدين سجادي وجمال نَبَزْ وعز الدين مصطفى رسول والملا جميل بندي روژبياني وكليم الله توحُّدي، بالإضافة إلى جمهرة من المستشرقين.
وظهرت حقائق في كهف (كرفتو) و(زيويه) في أطراف مدينة سقز، وهكذا خرجت كوردستان من إطار الأسطورة وظهر جلياً بطلانُ الفرضيات التي لم تكن مستندة إلى معرفة كافية أو لم تكن مطروحة بحياد تام.
وصار من المؤكد باختصار أن الكورد آريون من سلالة الميديين الذين ظهروا في كوردستان قبل آلاف السنين.
رؤوف توكلي
باحث ومؤرخ كوردي من إيران، ألف وحقَّقَ كتباً تاريخية كثيرة