صحيفة كوردستان ودورها في تعزيز الهوية واللغة الكورديتين
صحيفة كوردستان ودورها في تعزيز الهوية واللغة الكورديتين

صحيفة كوردية تنطلق من القاهرة

في عام 1898، أنشأ الأمير الكوردي مقداد مدحت بدرخان في القاهرة، أول صحيفة كوردية، سماها «كوردستان». قبل ذلك، كانت اللغة الكوردية تستخدم بشكل رئيسي في الشعر والكلام فقط، أما التعليم والكتابة فكانا باللغات العربية والفارسية والتركية. بعد غزو كوردستان وتقسيمها على يد السلطان سليم الأول العثماني والشاه إسماعيل الصفوي إثر معركة تشالديران في 1514 - 1515، كان الشعب الكوردي، في نهاية المطاف، محروماً من حقوقه الأساسية، بما في ذلك حق النشر بلغته الخاصة.

كان مؤسس صحيفة «كوردستان»، وهو سليل عائلة بدرخان التي لعبت دوراً بارزاً في السياسة القومية الكوردية، يعتقد أن تعزيز اللغة والثقافة الكورديتين ضروري لبقاء الشعب الكوردي ولم يكن إنشاء «كوردستان» سوى وسيلة لتحقيق ذلك.

يُعدّ نشر «كوردستان» لحظة مفصلية في تاريخ الشعب الكوردي ولغته. لقد مثلت خطوةً نحو تأكيد الهوية الكوردية وتعزيز استخدام اللغة الكوردية، التي تم قمعها في السابق من قبل القوى الاستعمارية المختلفة. وفي حين ركزت صحيفة «كوردستان» في البداية على القضايا السياسية والثقافية المؤثرة على الأكراد، فإنها لعبت فيما بعد دوراً أساسياً في تشكيل الوعي والهوية الوطنية الكوردية، فضلاً عن زيادة الوعي بالقضية والنضالات الكوردية.

منذ صدور صحيفة «كوردستان»، ساهمت العديد من الصحف والمجلات وغيرها من المطبوعات باللغة الكوردية في تطوير وتعزيز اللغة والثقافة الكورديتين، إلا أن «كوردستان» تبقى معلماً مهماً ويحظى مؤسسها بالتبجيل باعتباره شخصية رائدة في الحركة القومية الكوردية.

ماذا فعلت من أجل وطنك؟

قبل أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن لدى الشعب الكوردي إمكانية الوصول إلى الصحف الصادرة بلغته الأم، ولا المدارس أو دور الطباعة المخصصة للشؤون الثقافية. ولم يتم إنشاء هذه الصحيفة الكوردية الأولى إلا بعد نشر الصحف التركية والعربية والفارسية.

جاء الأمير الكوردي بدرخان بالفكرة أثناء رحلة إلى القاهرة، التي كانت آنذاك مركزاً سياسياً وتجارياً وثقافياً إقليمياً. ومع ذلك، فإن طباعة صحيفة باللغة الأم أثناء وجوده في المنفى شكلت تحدياً، حيث لم يكن موظفو المطبعة يتحدثون اللغة الكوردية، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الكورد يعيشون في القاهرة أو مصر عموماً. لذلك، كان على بدرخان أن يطبع صحيفة «كوردستان» في مطبعة الهلال ويرسل 2000 نسخة من العدد الأول إلى موطنه كوردستان.

وسرعان ما تمددت «كوردستان» إلى ما هو أبعد من كونها وسيلة ثقافية، لتكون بمثابة منصة من أجل توحيد المثقفين الكورد.

لقد عززت الصحيفة علاقة فريدة مع قرائها كما يتضح من دعوة بدرخان للقراء في العدد الأول للمساهمة بالمقالات، بهدف توسيع قاعدة دائرة قرائها وتشجيع الناس على حيازة المنشور من أجل منفعتهم.

نشر بدرخان الأعداد الخمسة الأولى من «كوردستان» في القاهرة، مستهدفاً الإقطاعيين والطبقة الكوردية المتعلمة. ولم تكن الصحيفة مجرد نسق من الحروف والكلمات المكتوبة بالكوردية، بل حملت رسائل قيمة، حيث تواصل بدرخان مباشرة مع قرائه وطرح أسئلة مباشرة في العدد الثاني من قبيل: «يا أمراء وحكام كوردستان، ماذا فعلتم لوطنكم حتى الآن؟»

يذكرنا هذا البيان بالكلمات الشهيرة التي استحضرها جون إف كينيدي بعد 63 عاماً «لا تسأل عما يمكن أن يفعله بلدك من أجلك، اسأل ماذا يمكنك أن تفعل أنت من أجل بلدك». والذي بات شعاراً مقتبساً على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم ويكشف رؤية الأمير بدرخان وآفاقه الواسعة.

مناشدات ورسائل السلطان

واجه بدرخان منذ الأعداد الأولى، بما في ذلك العددين الثالث والرابع، تحديات في النشر في كوردستان نفسها. وفي العدد الخامس، كتب رسالة مفتوحة إلى السلطان عبد الحميد الثاني، موضحاً فيها الصعوبات التي يواجهها. لم يرد السلطان بشكل إيجابي. لذلك أعلن بدرخان في العدد التالي أن السلطان لم يسمح حتى لأمراء آل بدرخان بإصدار صحيفة «كوردستان» من إسطنبول.

كتب بدرخان مراراً وتكراراً رسائل مفتوحة إلى السلطان في العديد من أعداد الصحيفة، بما في ذلك الأعداد 6 و7 و10 و13 و20 و26. تناولت تلك الرسائل، المكتوبة باللغة التركية، في المقام الأول نشر صحيفة «كوردستان» وانتقدت الوضع الجائر للشعب الكوردي، فضلاً عن فساد المسؤولين والسلطات العثمانية.

كما استخدم بدرخان الصحيفة منصةً لتسليط الضوء على بعض السلوكيات السلبية داخل المجتمع الكوردي، من قبيل الانقسام.

وبالمثل، شجع عبد الرحمن بدرخان، الذي تولى مسؤولية نشر الصحيفة بدءاً من العدد 6 إلى العدد 31، على القومية الكوردية والوحدة وحب الوطن، وبشكل خاص بمقال في العدد 9، في وقتٍ كان فيه الناس يستهجنون السلطان عبد الحميد الثاني في اسطنبول وخارجها.

الأمير المتفاني

دافع بدرخان باستمرار عن العدالة على صفحات «كوردستان». وقد أدرك أن العدالة الحقيقية لن تأتي من السلطان العثماني بل يجب أن ينالها الشعب الكوردي بنفسه. وقد أكسبه التزامه بالصدق والنزاهة أتباعاً مخلصين بين القراء الذين أبدوا كل الحرص على التفاعل مع مقالاته المثيرة للتفكير. وعلى عكس الكتاب الآخرين في ذلك الوقت، لم يستخدم الأمير مقداد مدحت بدرخان الصحيفة لخدمة منافعه الذاتية أبداً، بل انصبت كتاباته دوماً على توجيه وتنوير المجتمع الكوردي. ونتيجة لذلك، كان القراء ينتظرون الأعداد الجديدة بفارغ الصبر، حرصاً منهم على البقاء على اتصال معه ومع رسالته المهمة المتمثلة في تحقيق العدالة للجميع.

كان هدف بدرخان من نشر «كوردستان» ذا شقين: أولاً الترويج لاسم كوردستان واستخدام المحتوى لتعزيز التعليم الكوردي باللغة الكوردية. ثانياً كانت الصحيفة بمثابة منبر لفضح المظالم التي ارتكبها السلطان العثماني وموظفوه، وفتحت أعين الناس على محنتهم. ومن خلال هذا المنشور المكوّن من أربع صفحات، برز بدرخان زعيماً محبوباً ومخلصاً ألهم شعبه المطالبة بالإصلاح والثورة وتكافؤ الفرص التعليمية لجميع أطفال الكورد بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أو جنسهم.

عكست كتابات بدرخان وجهة النظر الكوردية ودافعت عن الحرية والعدالة والازدهار في كوردستان. على الرغم من موقعه كأميرٍ كوردي يتمتع بالثروة والحظوة داخل الدولة العثمانية، ضحّى بدرخان بذاته وراحته من أجل تقدم شعبه وتطلعاته.

ولم تكن «كوردستان» مجرد منشور صغير مكون من أربع صفحات للتسلية. بل كانت بمثابة أداة قوية لإيقاظ الأمة وإلهامه أبناءها لتحويل تطلعاتهم إلى إنجازات. لقد قدم بدرخان تحفة صحفية للأجيال القادمة يمكن للشعب الكوردي أن يفخر بها على مر الزمان.


مَغْديد سَپان

كاتب وأكاديمي. دكتوراه في الصحافة من جامعة سان بطرسبورغ. روسیا


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved