تعتبر قيصرية النقيب واحدة من أقدم مراكز الأعمال في إقليم كوردستان، وهي شاهد على أزمان مضت، وتحافظ على أهميتها التاريخية في مواجهة التحديث. تأسست هذه القيصرية في عام 1900 من قبل الشيخ مصطفى النقيب، وما زالت تحتفظ بطابعها وسحرها الأصليين. يتناول هذا المقال التاريخ الغني للقيصرية، مركزاً على طرازها المعماري، ودورها كمركز للأعمال والثقافة، والتحديات التي تواجهها في العصر الحديث.
الصمود أمام سلطة الزمن
خلال عهد الشيخ مصطفى النقيب، كانت القيصرية مأهولة أساساً باليهود الموجودين في كوردستان. وفي أوائل الخمسينات من القرن الماضي، عندما تم ترحيل اليهود إلى فلسطين، استولى المسلمون تدريجياً على محلاتهم. وقد نجت القيصرية من العديد من الكوارث، كما يظهر ذلك من الأضرار البادية للعيان وتلك التي يحكيها الناس الذين يستعيدون تاريخ المنطقة. «خلال الحرب العالمية الثانية تعرضت القيصرية للقصف، وتم تدميرها، ثم أعيد بناؤها في وقت لاحق»، يقول عمر محمد مصطفى، أحد تجار المحلات العتيقة. وفي عام 1957، شهدت قيصرية النقيب إحدى أسوأ الفيضانات في السليمانية وتعرضت أجزاء منها إلى أضرار كبيرة. وفي ذلك الوقت، قدم سكان المدينة، بما في ذلك العديد من الشباب والمعلمين والشخصيات العامة، مساعدات مالية للمتضررين. وفي عام 1988، خلال حكم البعث، تم إحراقها ثم أعيد بناؤها من جديد تماماً في وقت لاحق. «لم تتحمل الحكومة المسؤولية؛ نحن من تولينا الأمر وأعدنا إحياء المكان»، يقول مصطفى. «لقد تكبدنا خسائر كبيرة، بدءاً من الصفر بعد الوصول إلى النقطة الصفراء».
النمط المعماري
أشرف على عمارة المبنى عدد كبير من العمال والمهندسين المعماريين، معظمهم من إيران. وقد جاءوا على وجه التحديد من مدن كوردية مثل سنه (سنندج) وكرمانشاه. واختير لنمطها المعماري الغني تصميمٌ يعكس تصميم الأسواق المستخدمة في كوردستان الشرقية (شمال غربي إيران). كان الناس يستخدمون البناية من خلال خمسة أبواب رئيسية خشبية، وأضيفت بوابة سادسة حديثاً. وعلى الرغم من التعديلات، إلا أن السوق القديمة لا تزال تحتفظ بنمطها المعماري القديم.
تحتوي القيصرية على ساحة كبيرة، تعرف باسم الخان، محاطة بعدد كبير من المتاجر. وكانت الحمير تُستخدم لنقل المنتجات إلى القيصرية من خلال الخان. وبعد أن أُحرقت القيصرية في عام 1988، دخلت الجرارات من خلال الخان لإزالة الركام. اليوم، هناك بركة ماء في وسط الخان، تُطل عليها قبة تعزز جاذبية القيصرية الجمالية.
خضعت القبة لعملية إعادة بناء في عام 2012 عندما كانت على وشك الانهيار على المتاجر. فاتصلت الحكومة بشركات ألمانية وتركية وإيرانية للترميم، وأصرت هذه الشركات على إغلاق القيصرية أثناء العملية، مؤكدة ضرورة هدم القبة ثم إعادة بنائها. ومع ذلك، عارض أصحاب المحلات هذا الإجراء، لأن معيشتهم تعتمد على أعمالهم.
كلية الأعمال وبيت الناس
«کۆلێجا بازرگانی / كلية الأعمال» هو الاسم الذي يطلقه السكان على القيصرية، حيث أن الأفراد تعلموا فن إدارة الأعمال لفترة طويلة من خلال العمل فيها. كانت المنتجات التي تباع في السوق تأتي من بغداد وسوريا وإيران. ففي الماضي، كان التجار يسافرون شخصياً إلى هذه المناطق، ويحضرون أحدث المنتجات لأصحاب المحلات في القيصرية. بعد الأربعينات، أصبحت السوق مكاناً شهيراً لشراء الأعشاب الطبية، مع الصابون والسكر والشاي والأقمشة كمنتجات أخرى مهمة. ولا زالت العناصر الزخرفية تشكل سلعة رئيسية فيها. في البداية، كانت هذه المنتجات نادرة، ولكن بشكل تدريجي وخلال الستينات، ومع زيادة وعي الناس، بدأ بيع العناصر الزخرفية والديكورات، وتطورت السوق تدريجياً.
«شاي كوردستان» كان إحدى الماركات التجارية الناجحة في البازار. وكان الحاج قادر جبار، أحد أقدم التجار في القيصرية، يمتلك العلامة التجارية لفترة من الزمن. وفي عام 1963، هاجمت بعض الحشود متجر الحاج قادر وألحقوا به أذى جسدياً بسبب ملكيته لتلك العلامة التجارية. وعقب تلك الحادثة اختفت العلامة التجارية من السوق.
ومن الجدير بالذكر، أنه بعد ثورة 14 يوليو 1958، عندما بدأ البازار في استيراد سلع نسائية، بدأت النساء بزيارة البازار. وكان الحاج صالح قنديل وجبار فتاح أول شخصين في السليمانية يمتلكان متجراً مخصصاً لمستحضرات التجميل والمجوهرات النسائية. «كانوا يسمون القيصرية (بوصلة النساء) لأن تسوقهن لا يكتمل إلا بزيارة القيصرية» يشرح الحاج قادر.
قلب المدينة النابض
اليوم، هناك أربعة تجار يديرون متاجر في قيصرية النقيب، والذين يُعتبرون أيضاً الأكبر سناً: عمر محمد مصطفى، وعباس شرافي، وجلال فتاح، وقاله رَشْ. وكانت تقاليد البازار تقتضي أن يورث التجار متاجرهم لأبنائهم، مما يضمن أن يتبع الأبناء خطى آبائهم، وبالتالي الحفاظ على الأعمال التجارية والجذور الثقافية.
«لقد عملت في القيصرية منذ عام 1950، عندما كنت في سن السادسة أو السابعة تقريباً»، يشارك مصطفى في الحديث. «عملت مع إخوتي في متجرهم خلال فصل الصيف كمبتدئ. ثم أصبح لي متجري الخاص منذ عام 1970. والآن وبسبب تقدمي في السن، فقد تقاعدت وسلمت المتجر لابني. كل الذين عملوا هنا من قبل قد فارقوا الحياة، وقد خلفهم أبناؤهم وأحفادهم».
لقد غير الزمنُ الناسَ الذين جعلوا القيصرية مسكناً لهم ومنحوها الحيوية بطريقة أو بأخرى. وعلى سبيل المثال، كان الحمَّال درويش سعيد، المعروف باسم «العم إنشالله»، شخصاً محبوباً يتجول دائماً في القيصرية ويبيع أكياس الاستحمام ويعمل لصالح أصحاب المتاجر. لقد فارق الحياة في الثمانينيات من القرن الماضي.
التعاطف بين التجار
الشعب الكوردي معروف بحسن ضيافته، وهو ما يتجلى في التفاعلات الاجتماعية بين التجار والزبائن داخل القيصرية. الناس في القيصرية ليسوا مجرد زملاء عمل؛ بل هم أصدقاء حين الحاجة وعند العطاء. يتطور شعور بالتعاطف والثقة بين التجار، الذين يقضون 10 إلى 11 ساعة يومياً هناك، وبين التجار والزبائن.
«المتاجر في القيصرية ليس لها أبواب»، يبدي مصطفى هذه الملاحظة. «يستخدم الناس ستارة لتغطية بضائعهم أو يضعون كرسياً عند المدخل لإعلان أن المتجر مغلق عندما يذهبون لتناول الغداء أو يتجهون إلى المنزل. وفي نهاية اليوم، يحرس القيصرية حارس واحد فقط» يقول مصطفى. بالإضافة إلى العمل معاً، كان التجار يقيمون نزهات مشتركة في فصل الربيع.
القيصرية: ذكريات لا يمحوها الزمن
«كنت طفلة عندما كانت تأخذني والدتي إلى هذه القيصرية لشراء أشياء مثل الخرز والأساور - تلك الأشياء الصغيرة التي تسعد الأطفال»، تتذكر منيرة محمد، وهي خياطة تزور القيصرية بانتظام. «كانت تقول لي والدتي: (إنه أقدم بازار، وهناك أشياء جميلة فيه. سنذهب الآن ونشتري لك سواراً، وعقداً). إنها إحدى أقدم ذكرياتي».
حافظت القيصرية على ذكراها في عقول وقلوب الناس. يتعلمون عنها من آبائهم، الذين يأخذونهم إليها، والآن بدورهم، يأخذون أطفالهم إليها.
«كوني خياطة، عندما أحتاج إلى مواد الخياطة، آتي إلى هنا»، تقول منيرة. «توجد أوقات أزور فيها القيصرية مرتين في الأسبوع، وأحياناً مرة واحدة فقط. ولكن من المؤكد أنني أزورها مرة واحدة على الأقل في الأسبوع. بالنسبة لي، هذا المكان يملك شعوراً لا يمحوه الزمن».
«عندما أدخل القيصرية، فإن رائحة الماضي تجذبني، رائحة القرنفل والأعشاب الطبية. إنها تذكرني بطفولتي. وهذا المكان لا يتغير أبداً. صحيح أن هناك منتجات جديدة تدخل السوق، وهناك دائماً أشياء جديدة ومنتجات وفقاً للطلبات الحديثة، ولكن السوق لا يفقد أبداً بصمته التاريخية».
خديجة خان، امرأة مسنة في السبعينات من عمرها ترتدي عباءة، تعاين بضائع بعض المحلات: «قيصرية النقيب موجودة منذ زمن طويل. كنت طفلة عندما أتيت هنا لأول مرة. والله، أتذكر زيارتي لهذا المكان عندما كان اليهود لا يزالون يعملون هنا»، تقول بابتسامة ممزوجة بفرحة.
«كان الشيخ جلال خياطاً؛ كان يخيط الكوة، نوع من الفساتين التقليدية الكوردية للنساء، لي. كان متجره هناك. ولكن الآن لم يعد ثمة خياطون هنا».
أي شخص تتحدث معه في هذه الأيام عن علاقتهم بالقيصرية سيشرح ارتباطهم بالبازار بتنهيدة عميقة من الروح.
«كنت أعمل في بازار التهريب، هكذا كانوا يطلقون على البازار المجاور للقيصرية في تلك الفترة»، تشرح دانا إسماعيل، الزبونة المنتظمة. «كان منزلنا في چوارباخ. عندما كنت أمر من القيصرية في طريقي إلى مكان عملي، كانت حبات الخرز الصغيرة تلفت نظري. في المساء، عندما كنت أعود إلى البيت مبكراً، كنت أذهب من هناك في زيارة سريعة. أحبه. إنه مكان قديم. يحتوي على أشياء أحبها لأنني أحب ممارسة الأعمال اليدوية مع الخرز، مثل الأساور».
خلال الأوقات المتغيرة، استمرت القيصرية في الوجود. ومع ذلك، تقوم المجمعات الكبيرة والشركات بأخذ الأعمال التجارية من البازار. في الوقت الحاضر، هناك العديد من الخيارات المتاحة، ويمكن للناس شراء احتياجاتهم بسهولة في البازارات الصغيرة الجديدة والمراكز التجارية القريبة منهم. ونتيجة لذلك، تتقلص قاعدة العملاء في البازار القديم.
محاولات لمواكبة العصر
تبذل القيصرية جهوداً حثيثة لمواكبة العصر للبقاء على قيد الحياة، والتي تشمل استيراد المنتجات الحديثة. «أعتقد أنه في الأوقات السابقة، كان يأتي المزيد من الناس، والآن لا يكترثون بالزيارة إذ يمكنهم شراء منتجاتهم في أماكن أخرى»، تقول منيرة.
ومع ذلك، فإن الأسعار أرخص بكثير في البازار من أي مكان آخر، ولهذا السبب يفضل بعض الزبائن دائماً التسوق هناك.
«الأشياء رخيصة هنا»، تقول حسيبة سعيد، وهي أيضاً زبونة منتظمة. «تباع بأسعار الجملة. على سبيل المثال، إذا ذهبت إلى بازار دابوكة، فالبضاعة التي تشتريها هنا بـ 1000 دينار عراقي، من المرجح أن يكلفك 3000 دينار هناك. بالنسبة لشخص ليس ميسوراً مادياً، فإن هذا المكان أفضل من أي مكان آخر؛ فحتى عطوري أشتريها من هنا».
بين الماضي والحاضر
ومع ذلك، فمن الواضح أن الأجيال الشابة لا تزور البازار. وهذا يثير مخاوف من أن الأعمال قد تتوقف في القيصرية قريباً، حيث يجد الشباب طرقاً جديدة وأسرع للتسوق تتناسب مع أذواقهم ورغباتهم. ولكن بالنسبة للجيل السابق، فإن زيارة المكان لها أهمية أكبر بكثير.
«ما زلت أذهب إلى هناك. طابعه القديم يأخذني إلى الماضي»، تقول إسماعيل.
ويحزن الحاج إبراهيم، الذي أسس متجره في القيصرية عام 1972، «كانت القيصرية تؤمن عمليات البيع بالجملة مع المتاجر في دربندخان وما وراءها. ومع ذلك، انخفضت الأعمال بنسبة 50% بسبب انتشار المتاجر الكبيرة والشركات التي تقدم خدمات التوصيل، وتحول الزبائن بعيداً عن المتاجر التقليدية». ويضيف الحاج إبراهيم «الآن المنتجات هي التي تذهب إلى الناس؛ والناس لم يعودوا يأتون للمنتج. إنهم يعتمدون على الشركات والأسواق الجديدة أكثر من القيصرية».
على الرغم من هذه التحديات، يزور العديد من الزوار المخلصين مثل إسماعيل والحاج إبراهيم القيصرية بانتظام، مثمنين جاذبيتها الثابتة وجوها القديم.
سافان عبد الرحمن
رئيسة تحرير موقع DidiM الإلكتروني الثقافي الكوردي ومساعدة باحث في الجامعة الأمريكية بالسليمانية