قوّة المفقود سليم بركات رسامًا
قوّة المفقود سليم بركات رسامًا
May 26, 2024

"لستُ رسامًا"، يصرّ الكاتب الكورديّ سليم بركات في كلّ مرّة يُسأل فيها عن سرّ علاقته بالرّسم. بل ويكادُ يمحو أثرَ هذه العلاقة بإعلانه تخلّيه عن رسوماته. ولعلّ هذا التأكيد يأتي من باب الانفلات من نسبٍ إلى حضور قد يُساء فهمه، وسعيٍ نحو مفقود تكثرُ معانيه وتتعمّق متعته. "لستُ رسّامًا" يقول بركات نافيًا عن نفسه انتسابًا أو مطابقًة هووية، وهو ما يجعل من منطق النفي هذا قاعدةً نشطة لابتكار مساحة قلقة بين نفي مهنة الرّسام والابتعاد عن مهنة الكاتب، وهي المساحة الأكثر كثافةً الهاربة من المطابقة والتجانس، وتقترب إلى لغة أقلويّة خارجة عن القوانين والتراث لأيّ "لغة". وهو النفي الذي يجعلُ من سليم المبدع صاحب لغة أجنبيّة في حقل الرّسم، تتيحُ له لا انتماء مشروطًا بمنفى يمنحه حريّة مجهول النّسب. هكذا يتحقّق اختلافه بمرونة ووفرة فيستعيد ويخلق ويتناصّ ويفكّك ويفبرك ويركّب دون مقارنة مع "الأصل" و "الأصول" فلا يقوم عليها ولا يقاومها.

هكذا أقرأ نفيَ سليم بركات. إنه نفيٌ يعمل في نظام استعاريّ فنيّ يتكوّن من هوّات وفراغات ومفاجآت دون تبعيّة للقب الرّسام، فيتقدّم العمل على صاحبه، ويراكم سيولة/سيولات لحركات الألوان وانتشارها على مسطح الرسم، في محايثة محضة ومجاوزة، تجعل ما ينتج عنها يتعدّد ويتكرر ويختلف، فينفلت خارج الذات وخارج الموضوع.

المتأمل في مشروع سليم بركات الأدبيّ، سيجد أنّ المقولةَ التي تقف وراء كواليس كلّ عمل أدبيّ تقريبًا، محاولة إنتاج عالمٍ فطريّ، بدائيّ، تسكنه حسيّة وغريزيّة تتحرّك في "مسطّح محايث" حيث يصير السرد واللغة دعامتين للتعقيد والغموض الكامنين في العمق المطلق لفطريّة المادّة، إلى الكثرات المتشددة، عودة إلى البدايات، إلى الوحشيّ والملغز، الغامض، الغريزيّ، الوجوديّ، إلى يقظة الأسطوريّ الذي يترنح بين الطفولة والكهولة في الوسط المجاوز. تبدو عوالم بركات منذ البدايات، شعرًا وسردًا، انفلاتات دون توقّف من دورة الزّمن، ومجازفةٌ بالمكان، في ضربات أفقيّة باللغة يتمدد فيها في الحيّز الإنسانيّ وفي الجوهر المنطوي على كتلة التعارض والمحيّر والقاسي والنافر للوجود وللموجودات. هكذا أيضًا لا تبتعد ضربات الفرشاة ونفث الألوان على الورق عن هذه الدّهشة، وإن جاءت بلغةٍ تسكنها الألوان والمنحنيات والتعرجات. من يتأمل لوحات سليم بركات، يجد تمدّدًا للفطرة، ولملامح البداءة والتجريد اللونيّ على حدّ تعبير رستم آغاله (الفنان التشكيلي الكوردي من بلدة كويه في إقليم كوردستان)، في اختيار الألوان وأبعاد ضربات الفرشاة على الورق، المصحوبة بعتامة منهجيّة متكرّرة، وبلونيّة قاتمة تسندها لونيّة صارخة، فتقولُ موقفًا وحشيًا وتُعيدنا مع كلّ تكرار إلى ما يتجاوز الزمان والمكان وينفتح على وفرة المعاودة.

"لستُ رسّامًا"، هي إعلانٌ عن انقطاعٍ عن النموذج، ذلك الذي يحتاج إليه الفنان ليبني عليه ويعارضه ويفارقه. ومن يتأمّل هذه اللوحات، الغامضة، الفاقعة، الظلاميّة تارةً، والوهّاجة بظلاليّة قاتمة حيث تتعالق فيها الحركات اللونية في كل مرة، على نحو مراوغ وملتوٍ، أو ربّما "سيمولاكريّ " الطابع، هو ما يكوّن القوة الايجابيّة لما تقع العيون عليه وتنشط في القبض على معانيه.

قارئ سليم، يجد نفسه على الدوام بين محاور تتجاور، تتمازج، وتتساكن في مواجهة الفجيعة وفي الوقوف أمام مقتلة الذاكرة وعدوانيّة الزّمن، كلّها معجونة معًا داخل البارد-الأليف، في حركة محايدة. سترى الأحداث المرعبة مصحوبة بفكاهة العنيف، وعدوانيّة الحميميّ، كلّها متكئة على لغة تقسو في عمقها على قارئها، وتكشف له مدى جهله بها، ويثيرُ سردها أسئلة محيّرة ترفع المفاهيم المألوفة إلى مصاف لا حتميّة الفهم. وهذا أيضًا هو حال قارئ رسوماته، يجد نفسه داخل بؤرة مكثّفة من ألوان متدرّجة، تحشد على نحو كرنفاليّ المبهج والمدهش ممتزجًا بالغامض والمنكوب، وتعمّق المعرفةَ اللونيّة بالفكرة والحواسّ، وكأنّها ألوان متداخلة بتلقائيّة تبدو بديهية، إلا أنّها تنجو من التلقائيّة الساذجة، فلا تفصح ولا تخفي بقدر كونها تلمح، وهذا ما يزيدُ تعميق بُعد الغواية في رسم بركات بنفس قدر دهشة الغواية في سرده.

في الرّسم، يخلق سليم بركات عالمًا سرديًا للألوان يوازي العالم السرديّ للكلمات، إلاّ أنّه اقتصادٌ لغويّ يجنحُ نحو تعميق البصريّ وتوسيع مدى الرؤية-الرؤيا. يستبطن ويستعيد ويستنفر ويثير الفجيعة أحيانًا بلونيّة عاتمة، والبهجة الحذرة أحيانًا أخرى بلَونيّة عودة إلى الأرض والتراب بالبنيّ ودرجات البني الغامقة والفاتحة. تحليقٌ في السمائيّ والمائيّ والأثيريّ بدرجات غامقة وفاتحة وشفافة. تنتزعُ الألوان في رسومات بركانيّة اللون، لازمنيّتها وشرعيّة حضورها الهادر طولا وعرضًا مكسورًا بمجموعة أخرى من الألوان تُحدث صدعًا رحيمًا وتنافرًا محمودًا يشبه ذلك التنافر الذي يستيقظ في القارئ مع انصهار اللغة في دهشة الأحداث وتعاقبها في رواياته. وهكذا، يتحوّل الرسم إلى إيغال في كَثرة لونيّة، تتعدّد فيها المعاني وتتعارض وتتمازج علّها تستحضرُ ما يُضمره الفنان، وعلّها تعمّق غياب المضمَر المتستّر وراء الكَثرة. يتيح مبدأ النفي والرفض المعلَن عنه بعبارته "لستُ رسّاما- صفة التركيب على العبارة، لا التمثيل البحت، والاقتران لا الإسقاط والتجاور لا التراتب، بالتعبير الدولوزيّ. وفي هذا التوازي إضافة لبنة أخرى في المعماريّة الابداعيّة لدى بركات، في كون الرّسم العالم اللامتناهي بتعدّد معانيه، ونفيه عن العاديّ المبتذل، أي نفيه عن موته في زجّه داخل إطار الحسّ المشترك.

ثمّة مقولةٌ تجري على الهفوات المقصودة، وهي الهفوات التي من أجلها ربّما يعلن الفنان: "لستُ رسّامًا". هذه الهفوات تتركنا سابحين في ماء الألوان تستدعي الوحشيّ والفطريّ، الساكن منه والخطير، البارد منه والحميم، الغريب منه والأليف، الزخرفيّ منه والمجرد، الموجود منه والمفقود. ولا عجب أن تكون بيانًا يختزل ذاكرة "كثيرة" تذكّر الفنان التشكيلي الكوردي الألماني بهرام حاجو بالنقوش التي صاغتها الأمهات الكورديات والنساء على الأقمشة الكورديّة، وتعيده إلى البيئة الأولى وربيعها. إنّها قوّة المفقود الذي يستحضره سليم مبتكرًا لغةً خاصّة في حيّز الرّسم، دون هويّة قبليّة أو نموذج أصلي يعود إليه، تماما كقوّة المفقود الذي يعيد ابتكاره روائيًا وشاعرًا في حيّز لغةٍ وسردٍ وشعريّة، لغة تسكن في الهامش والهامل والمتروك، لا يتكرّر فيها المعنى إلا ليختلف.


ريم غنايم

كاتبة وناقدة فلسطينية. بها كتب عديدة في الشعر والترجمة


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved