رواق الأكراد.. رواق الذاكرة
رواق الأكراد.. رواق الذاكرة

ربما يدل رواق الأكراد في الأزهر الشريف في أقل تجلياته على حضور غارز في التاريخ، لا يدل على تفصيلة بسيطة أو جانب تاريخي تعليمي فحسب، بل ربما يدل في جانب أساسي على موقع الكورد أنفسهم بين طيات التاريخ، ولا يفوته في مقام محسوب أن يضع قدماً كبيرة للكورد عبر طلاب العلم داخل الأزهر تلك المؤسسة العريقة التي تشكل إحدى صفحات التاريخ العربي الإسلامي وتسجل من جانب بهي مساهمات الكورد في الحياة الإنسانية.

ومن الطريف والموجع أيضاً أن نزاعاً حدث في مؤسسة الأزهر وكانت كركوك محور هذا النزاع، وبشأنها بُحِثَ عن الحل، وبالتوصل إلى هويتها القومية تم حَسْمُه علمياً.

في أبريل/نيسان 1913م جاء الطالب شوكت محمد غوث من كركوك إلى مصر للدراسة في «الأزهر الشريف»، حيث كان لأبناء كل جنسية وقومية من الوافدين على الأزهر وقتذاك «رواق» باسمهم، وهو ما يقابل حاليا «القسم الداخلي»، أو «المدينة الجامعية للطلاب» في الجامعات. وعليه كان للكورد رواق باسم «رواق الأكراد»، وللترك رواق باسم «رواق الأتراك»، وللعراقيين رواق باسم «رواق البغداديين» أو «رواق البغاددة» وهكذا مع حوالي 42 قومية مختلفة يفد أبناؤها على الأزهر لا يتمتعون بجودة ومجانية الدراسة فحسب، وإنما يتكفل الجامع بكل شؤون حياتهم طوال سنوات الدراسة - بما فيها الحج مرة واحدة - منذ خروجهم من بلادهم وحتى عودتهم إليها مرة أخرى حاملين شهادة «الأهلية» وهي تعادل «الليسانس» حاليا، أو حاملين «العالِمية»، وهي تعادل «الدكتوراه» حالياً.

قضية كركوك والأزهر

وعندما وصل الطالب شوكت محمد غوث إلى الأزهر حاملاً معه كل أوراقه المطلوبة بما فيها شهادة الميلاد، طلبَ الانتساب والإقامة بـ«رواق البغداديين»، لكن شيخ هذا الرواق (الرئيس) رفض «قبوله بدعوى أن هذه البلدة ليست تابعة لولاية بغداد. عندها اشتكى الطالب لمسؤولي الأروقة في الأزهر، فتحققوا من أوراقه؛ فوجدوه كوردياً مولوداً في كركوك. وعليه طلبوا من شيخ رواق الأكراد قبوله: «نظراً لأنه مولود في بلاد الأكراد»، لكن شيخ رواق الأكراد رفض مُدّعياً أن الطالب شوكت محمد غوث تركي الأصل، وأنه لا يُقبل في رواق الأكراد إلا من كان من أصل كوردي، حتى وإن كان قادماً من كركوك، فلا يُقبل في الرواق إلا الكوردي أصلاً ومولداً.

جراء ذلك تم تشكيل لجنة علمية لتحديد هوية كركوك: هل هي كوردية أم تركية أم عربية؟ مع فحص أوراق الطلاب السابقين الذين أتوا من كركوك: في أيّ رواق تم انتسابهم؟ وبعد انتهاء اللجنة المشكلة من مهمتها توصلت إلى أن كركوك إحدى البلاد الشهيرة في كوردستان، اعتماداً على ما ورد في كتاب «النخبة الأزهرية في الجغرافيا» لإسماعيل بك علي.

وكان وجه الغرابة في هذا القرار هو شذوذ ما تم الاستناد إليه، مع أن المذكرة المرفوعة إليه فيها تفاصيل الحالة بما فيها تقرير اللجنة العلمية التي شكلت للبحث عن هوية كركوك، وتوصلت إلى أنها كوردية، وأن أغلب من جاؤوا منها انتسبوا إلى رواق الأكراد بحكم مولدهم وأصلهم الكوردي، بل إن عدداً من طلاب كركوك جاء بعد ذلك للدراسة في الأزهر، وكان انتسابهم إلى رواق الأكراد على الأساس التي كانت تعامل به كركوك بأنها من البلاد الشهيرة في كوردستان.

من الراسخ أن جامع الأزهر التعليمي لم يقتصر دوره منذ إنشائه على الطلبة المصريين فقط، وإنما امتد إلى کل أرجاء العالم الإسلامي، بل شمل طلبة العلم المسلمين في البلدان والدول ذات الأقلية المسلمة، ومن بينهم الكورد بالطبع.

وتشير المعلومات القليلة المتوفرة، والمؤكدة إلى أنه كان للأكراد رواق في الأزهر الشريف خاص بالطلبة الكورد، وسط أروقة لطلاب من بلاد أخرى، وكانت له أوقاف قديمة ترجع إلى نحو ثلاثمائة سنة، والرواق عبارة عن مكان واسع، يضم عدداً من الغرف للطعام والمنام، ومكتبة، ويحصل الطلبة على الطعام والكساء من الأغنياء والمحسنين، ومن الأوقاف المسجلة عليه.

أميرة كوردية تدعم طلاب العلم

والراجح والمتواتر أن الأميرة الكوردية (خاتون خان) من الأسرة الأيوبية أوقفت ثروتها في خدمة العلم والدين وإنشاء المدارس، ومن وقف هذه الأميرة أنشئ رواق الأكراد في الجامع الأزهر منذ مئات السنين، وتخرج فيه مئات العلماء من كورد كوردستان (العراق، تركيا، سوريا، إيران، روسيا)، وكانوا بحق من ضمن من نشروا الدين واللغة العربية في تلك البلاد.

وكانت لرواق الأكراد أوقاف متمثلة ببعض المنازل والمحال التجارية في مدينة القاهرة، تعود أجورها بالفائدة لهذا الرواق. وكانت له مكتبة قيمة وقّفها أهل الخير على الطلبة الكورد، ضُمت لاحقاً إلى مكتبة الأزهر العامة في سنة 1897.

مشايخ الرواق

ومن الذين تولوا مشيخة الرواق الشيخ عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الذوقي الكوردي الأزهري، نسبة إلى حصن الذوق إحدى نواحي ولاية (بدليس = بتليس) في كوردستان تركيا حالياً. ولد فيها سنة 1277هـ /1860م، ثم قدم إلى مصر لإتمام تحصيله بالأزهر الشريف. والطريف أن شيخ رواق الأكراد بالأزهر منعه حينئذ من الانتساب إلى الرواق، بحجة أنه حنفي المذهب، والكوردي حسب زعمه يجب أن يكون شافعياً.

وهكذا لبث إحدى عشرة سنة يجالد ويكافح إلى أن تمكن من الانتساب إلى رواق الأكراد في (25 ربيع الآخر 1313هـ)، وإليه ينسب الفضل في فتح باب الرواق لعموم الكورد. ثم عيّن إماماً بمسجد الرواق العباسي بداخل الأزهر. وتولى مشيخة الرواق وأصبح ناظراً على أوقافه. 

وممن تولوا مشيخة الرواق الشيخ عمر وجدي بن عبد القادر الكوردي المارديني، المصري (1901 - 1991)، الفقيه، والمتكلم، والزاهد. المولود بماردين في كوردستان تركيا، وقد رحل إلى مصر، والتحق برواق الأكراد بالأزهر الشريف، وتلقى العلم عن الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ محمد زاهد الكوثري. عمل مترجماً في الإذاعة المصرية باللغة التركية، كما عمل شيخاً لرواق الأتراك والأكراد والبغداديين بالأزهر.

وآخر من وقف على الرواق الكوردي والتركي من رجال الدولة العثمانية الفريق إبراهيم أدهم باشا الأورفلي المصري من عشيرة الملية الكوردية الضاربة في شرق وجنوب الرها = أورفا.

ومن بين كل الأقوام الذين وفدوا إلى مصر واستقروا بها، وذابوا في مجتمعها، ولم ينسوا جذورهم: المصريون الذين لا يزالون يذكرون أن جذورهم البعيدة أو القريبة هي كوردية، وأن لهم أجداداً وصلوا إلى مصر في عصور مختلفة، ولم ينسهم أحفادهم ولا أحفاد أحفادهم رغم أن معظم صِلاتهم قد انقطعت تماماً ببلد أجدادهم كوردستان.

الجذور المغَيَّبة

ومما يؤسف له، أنه قلما يكتب مؤرخو العصور الحديثة عن أصل مشاهير الكورد الذين عاشوا في مصر وخدموها بإخلاص تام. فإما ينعتونهم بالأتراك، أو الألبان، أو يُنسبونهم لأي جنس آخر، ولا يعطون الشعب الكوردي حقه بذكر أصلهم. ربما كان هذا عن جهل منهم، أو عدم الدقة في تصفح التاريخ، أو لأن هذا الكاتب الكوردي قد خدم الإسلام والحضارة العربية ولغتها إلى درجة تناسى معها أن يذكر أصله غير العربي. والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن ذلك لا يمنع أن نذكر أسماء كبيرة تجاوزت بأصولها الكوردية كل هذا وعلى رأسهم محمد علي باعث النهضة في مصر وأمير الشعراء أحمد شوقي والكاتب الكبير عباس محمود العقاد ولا ينتهون عند الشيخ عبد الباسط عبد الصمد من أعظم مقرئي القرآن.

وكثيراً ما كان انتشار الكورد خارج وطنهم كوردستان مفيداً، وإن كانوا يكتبون بلغة أهل البلاد التي وفدوا إليها واستقروا فيها، ونتج عن ذلك أن قليلاً من الناس يعرفون تمام المعرفة ما قدمه الشعب الكوردي في مختلف عهود التاريخ الإسلامي من خدمات عظيمة وتضحيات كبيرة في سبيل الدفاع عن الحضارة الإسلامية والثقافة العربية.

حزن على غياب اسم رواق الأكراد

لا يمكن لتاريخ منصف أن يتجاوز دور الشعب الكوردي في التاريخ الإسلامي وأهم وأشهر القادة الكورد الذين جاءوا إلى مصر منذ العصر الإسلامي، مرورا بالدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين الإيوبي، الذي لا ينكر أحد كورديته، والآثار العمرانية الكثيرة التي أسسها الأيوبيون الكورد في مصر.

وقد قيل إن الرواق أقفل لأسباب غير معروفة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بينما الأروقة الأخرى ما زالت قائمة إلى اليوم. 

لذا يطالب الكورد الآن بإعادة فتح رواق الأكراد الذي أقفل، ليعود إشعاع الأزهر الشريف مرة أخرى في ربوع كوردستان. وقد احتجت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة إقليم كوردستان العراق على إلغاء «رواق الأكراد» الموجود منذ أكثر من قرن، وطالب وزير الأوقاف وقتها محمد أحمد سعيد شاكَلي في رسالة موجهة إلى شيخ الأزهر آنذاك محمد سيد طنطاوي «إعادة النظر في القرار».

وجاء في نص الرسالة: «من المؤسف حقاً ما عرفناه أخيراً بأنه تم إزالة لوحة التعريف الخاصة بـ(رواق الأكراد) في الجامع الأزهر الشريف وكتب بدلها (رواق الأتراك) مما كان له أثر مؤلم في نفوسنا».

وأثنى شاكلي في رسالته على الدور التاريخي للجامع الأزهر في نشر العلم واستقبال طلاب العلم من جميع الشعوب الإسلامية بغض النظر عن اللون والجنس والانتماء، كما أشار إلى «مكانة الأزهر لدى العلماء المسلمين الكورد. ومن مآثر الأزهر وجود (رواق الأكراد) منذ أكثر من قرن حيث كان الكورد من مختلف البلدان يدرسون في هذا الرواق وتخرج المئات من علماء كوردستان العراق منه.

لقد مثل رواق الأكراد، الذي خرج من الواقع لكنه بقي في الذاكرة، جانباً معرفياً مهماً لوجود الكورد ومساهماتهم.


وحيد الطويلة 

كاتب مصري له روايات عديدة


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved