رحلة في كابوس
رحلة في كابوس

سأتوجه إلى أي مكان

تختلط فيه الريبة والخوف 

تختلط فيه رائحة الصراخ واسم الله مع التراب!

في طرق الدخان، رحلة الرماد

في سهول الصراخ. رحلة اللعنة

في الأرقام الضائعة. رحلة بلا هدف.

في بكم اللسان، في صمم الدنيا

رحلة بلا نهاية*

هكذا فعلت قبل أن يكتب (شيركو بيكَس) ملحمته الرائعة. توجهت إلى كل مكان (تختلط فيه الريبة والخوف وسهول الصراخ)، تتبعت خطى (المؤنفلين) من خلال أحاديث الناجين. تتبعت القصيدة قبل أن توضع على الورق، كما حدثت على الأرض التي (تختلط فيها رائحة الصراخ واسم الله مع التراب). تتبعت القرى عبر الطريق الذي مرت به الشاحنات إلى معسكرات العذاب وتلمست الخرق البالية وأحذية الأطفال التي دلتني على وجود الغائبين. أجلس مع الناجين على الأرض وأنتظر نهاية الذهول والشهقة التي تسبق أول الكلمات ثم أفتح آذاني للصوت المختنق وهو يروي وقائع الكابوس. الفيالق القادمة من جبهة الحرب مع إيران، قوات الحرس الجمهوري، قوات الطوارئ، قوات الجيش الشعبي، الأفواج الخفيفة.. كل هذه القوات شكلت الكماشة اللازمة لمنع سكان القرى المضروبة من الهروب خارج الطوق. بعد ذلك بدأت عمليات فصل الرجال عن النساء ثم الترحيل: «كنا نترك قرانا محشورين فوق بعضنا بعد أن أُخذ رجالنا معصوبي العيون، ومن فوق كنا نرى ألسنة اللهب تلتهم قرانا وبيوتنا. صراخ الأطفال وصراخ النسوة يختلط بصراخ حراسنا وهم يهددوننا بمصير أسوأ من جهنم إذا لم نسكت». هناك فضاء مكهرب هو مزيج من (بكم اللسان وصمم الدنيا).

في جامعة صلاح الدين، أردنا أن نفتح باباً للمسكوت عنه. أردت أن أقدم شهادتي عن ضحايا لم أكن منهم. الضحايا أنفسهم كانوا غائبين أو معتصمين بصمتهم لأن الصوت يجرحهم. بعد أن ألقيت شهادتي وجلست، سمعت صرخة شقت الصمت في القاعة. أحد الحاضرين ربت على كتفي من الخلف:

-هذا واحد من المؤنفلين يتحدث عنك… يقول إنه جاء ليتمسك بالصمت، لكن هذا العربي (يقصدك) فجّر ما في قلبي، هو لا يعرف أن في القاعة بعض من ساهموا في الحملة…

أدري إن الرعب الشامل يحوّل الضحايا المحتملين إلى جلادين لأبناء جلدتهم، الرعب الشامل غير مشخصن ولا يستثني الناس الأسوياء من ماكنته الدمويّة.

الجلاد حاضراً!

فارقت الضحايا وتتبعت الجلاّد. حال استلامه مهمته الجديدة أصدر حاكم الشمال المطلق الصلاحيات (علي حسن المجيد)، مجموعة قرارات تميزت بالاقتصاد الشديد في الكلمات لخلوها من أية هوامش أو شروحات أو استثناءات. عشرات، بل مئات الكتب الصادرة باسمه قبيل وخلال الأنفال. ولا واحد منها يتعلق بفرد أو عائلة، إنما بمجموعات ومساحات جغرافية. وعندما كانت الاعتراضات والاستفسارات تصعد من مراتب المنفذين المختلفة، رد بحزم مطالباً «على الأجهزة الأمنية عدم إزعاجنا حول الفقرة 5، وهي الفقرة المتعلقة بإعدام أقارب المخربين من الدرجتين الأولى والثانية، إن قرارنا يفسر نفسه بنفسه، ولا يتطلب موافقة سلطات أعلى... يجب أن ينفذ دون استشارة». 

تخلو قراراته من أية شروحات أو استثناءات، لكنها تنطوي على أوسع دمار ممكن. وتتردد كلمتي (أي) و(كل) مثل لازمتين في القرارات الصادرة عنه.. فـ«المخرب» حسب برنامجه «التأديبي»، لم يعد شخصاً محدداً قام بعمل محدد ضد الدولة ويعاقب بجريرة عمله بالذات، إنما هو ومحيطه العائلي، بل وعائلته بالذات إذا تعذر على السلطة إلقاء القبض عليه.. وحسب التوجيه السري رقم 435 تعاقب عائلة المخرب بالتهجير حتى لو كان لديها أبناء آخرون يقاتلون مع السلطة. وعلى الطريقة الإسرائيلية تقوم وحدات الهندسة بتفجير دار عائلة «المخرب»، وأيضاً الدور الأربعة التي تجاورها.. هكذا ينص الكتاب الرسمي. وحسب القرارات الصادرة في 25/4/1987 يتجاوز العقاب العائلة إلى القرية: 

- محو كل القرى المتعاونة مع المخربين.

- إطلاق النار على كل من يشاهد داخل الحزام الأمني المحظور.

- تدمير أية قرية يطلق منها عيار ناري ضد قواتنا.

- يعدم أو يقدم للمحاكمة الفورية كل من يقدم أية مادة للمخربين. 

لكن «مأثرة» المجيد الحقيقية، تكمن في أن استخدام السلاح الكيمياوي أصبح في عهده السلاح الأسهل والأكثر فاعلية لإبادة الحياة في كوردستان. ولذلك حمل بجدارة لقب (علي كيمياوي). وقد باشر المجيد عمله في مدة قياسية.. ففي 10 أبريل / نيسان، عقد ندوة حضرها عدد كبير من المسؤولين الحزبيين والحكوميين والأمنيين وأبلغ الجميع بقرار إزالة جميع القرى الواقعة على جانبي الطرق والمواقع والمعسكرات الحكومية بالجرافات والقصف المدفعي والكيمياوي وجعل مناطقها «محظورة أمنيا». وتبدو كلمة «محظورة أمنياً» ملطّفة جداً بالمقارنة مع التوجيه الموقع باسم علي حسن المجيد المرقم 3650-28 والمؤرخ في 3 يونيو / حزيران 1987، الذي ينص على منع وصول المواد الغذائية والآلات، وعدم السماح للأقارب بالاتصال بأقاربهم هناك، وعدم السماح بالحصاد والرعي في هذه المناطق، ويلزم البند الخامس «ضمن نطاق سلطاتهم يجب على القوات المسلحة قتل كل كائن بشري أو حيواني ضمن هذه المناطق». 

في الأشهر الثلاثة الأولى من مباشرته عمله، حقق إنجازات (باهرة) في محو الحياة من 912 قرية وناحية. نتائج الإحصاء لم تعلن من قبل الحكومة، لكنها تسربت لاحقاً وتكشف أن عدد القرى في محافظة السليمانية انخفض من 1877 في إحصاء عام 1977 إلى 186 فقط في إحصاء عام 1988، أي أن 1700 قرية قد اختفت من الخارطة الرسمية لهذه المحافظة. مع ذلك لم تكن هذه حدود مخيلة القيادة العراقية لأن الخطة الأبعد مقيدة بمرابطة معظم القوات العراقية على جبهة المواجهة مع إيران. وحال بدء الهدنة تحررت معظم القوات من العدو الخارجي لتتجه نحو العدو الداخلي لتنفيذ الجريمة الأكبر.

وقد بدأ تنفيذ الخطة على ثماني مراحل تمتد من شباط / فبراير إلى أيلول / سبتمبر 1988، واستمرت حتى مطلع سنة 1989. وقد اتبعت الحملة أسلوب الإبادة الجماعية التقليدي الذي يقوم على الثوابت الثلاثة: تحديد – حجز – إبادة. لكن النظام العراقي أضاف لهذه الثلاثية الثابتة بادرة جديدة كونه أول نظام في العالم يستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد مواطنيه. وقد استخدمت سورة الأنفال اعتماداً على الآية رقم 11: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)، لأن الآية تنطوي على الفعل «اضربوا فوق الأعناق»، وعلى الرعب الذي يثيره الفعل «إلقاء الرعب في القلوب».

وأعود هنا لتعليمات كتائب فرانكو، التي توصي بتشديد العقاب على مجموعات تؤوي الجمهوريين، وبضرب هذه المجموعات في مناطق تجمعها «الذعر الذي سيصيب المدنيين سيؤدي لتحطيم معنويات القوات المنسحبة». الرعب سيدفع إلى الاستسلام ويجعل أية مقاومة مستحيلة ما دام كل شيء مهما كان جنونياً يبدو ممكن التحقيق من خلال هول الجريمة.. الوسيلة الأمثل لإثارة هذا الرعب هي السلاح الكيمياوي الذي ارتبط باسم المجيد. 

لثلاث مرات أردت وأنا في حلبجة أن أصل لحظات الحدث وأثبت صورته في ذهني «حين فاجأتنا الطائرات وأصوات الانفجارات حولنا كان البعض يقولون هذه غازات سامة، وآخرون ينفون ذلك. لم تكن غارات الطائرات وهي تتوالى على سماء القرية تعطينا فرصة لنستوضح، وإذا انقطعت سيبدأ القصف المدفعي والراجمات. أعمدة من دخان أبيض كالملح المرشوش، أو أسود مزرق، أصفر، ثم تنزل السحب إلى تحت، وآنذاك نشم رائحة تفاح حلو، ثم تبدأ الأعراض: ضيق في التنفس حد الاختناق، ودموع محرقة تنهمر مقرّحة الأجفان حدّ العمى وسائل لزج ومحرق يسوّد الجلد ويسلخه… نوبات ارتجاف وتقلصات حادة. الناس يدورون كالمجانين وبعضهم دخل في نوبات ضحك هستيري ثم يبدأ الموت حاصداً الأطفال أولاً. تماماً مثل القيامة مع فارق أنها من فعل بشر». 

ثلاث محطات في الجحيم

لن ينسى الكورد، وبالأخص الذين عاشوا تجربة الأنفال، ثلاثة أماكن مشؤومة هي: (معسكر الجيش الشعبي في طوبزاوه) القريب من كركوك، سجن النساء في (دوبز) الواقع عند ملتقى طريق كركوك - الموصل، وسجن (نقرة السلمان) في الصحراء الجنوبية الممتدة إلى السعودية. في هذه المعسكرات الثلاثة وصل المرحلون وهم شبه موتى من ضيق المكان والتنفس والجوع والعطش والإحساس بالمجهول. 

وكما تقول القصيدة:

إن لم أدلّكَ أنا على الطريق،

لا خيول الأساطير ولا أيائل الحلم،

ولا الريح المشعوذة

ستعرف مكان تلك الميتات

لأنها لا واحد ولا اثنتان ولا ثلاثة

ولا ألف

ما قبل الرصاصة

في المعسكرات أُنزل الرجال القادرون على حمل السلاح، وأخذوا مربوطين مع بعضهم في حبال جماعية. عُذِبوا وأُذِلوا بعد أن أخبِروا بقرار إبادتهم جميعاً كمخربين. بعد جولات التعذيب أوقفوا على حافة حفر طولية مهيأة مسبقاً.. عيونهم معصوبة ووجوههم باتجاه الحفر. حفّزت كل مخيلتي وحدسي لألتقط هذه اللحظة التي سبقت الرصاص. ما الذي خطر في ذهنهم وأية صور خاطفة تتالت قبل أن ينطلق الرصاص؟ صفير الريح وهي تجرح العوسج، صراخ الأولاد، البيت المحترق، أم الفراغ؟ تبدأ رواية في (مائة عام من العزلة) من هذه اللحظة. لحظة وقوف (بونديّا) أمام فريق الإعدام.. لحظة أراد بها (ماركيز) أن يلخص الحياة. في قصيدته يطرح شيركو بيكس السؤال ويجيب عليه:

أين أضع رأسي أولاً؟

في الضباب؟

في الدم؟

في التراب؟

أين؟

الشيوخ اقتيدوا إلى سجن (نقرة السلمان) ليموتوا هناك من دون رصاص، من الجوع وقلة الماء ويلقون فيما بعد طعاماً للكلاب المسعورة المحيطة بالمعسكر. أما النساء اللواتي اعتقلن في معسكر (طوبزاوه) فقد عشن عذاباً يهون أمامه الموت، بين الخوف على مصائر رجالهن الذين اقتيدوا إلى جهات مجهولة والخوف على الأطفال الذين يذوون على صدورهن. الناجون الذين التقيتهم فيما بعد قالوا عن حياتهم لم يعد لها طعم بعد ما رأوه. في مخيم قريب من أربيل التقيتهم بعد سنوات وسألتهم عن الكوابيس التي تراودهم:

- أسمع قبل النوم بلحظات صرخات متصلة، يخيل لي أنها صرخات حفيداتي.

- أرى حفيداتي جالسات على الأرض بانتظار أن أوزع عليهن الشاي، ثم فجأة يختفين.

- حين أخذوا أهلي بقيت مختفياً في دولاب الملابس… حتى الآن أراني مختفياً أنظر من شق في الخشب وأرى والدي ووالدتي يُنتَزعان وأنا أخاف أن أصرخ حتى لا أنكشف. 

لِمَ توقظ الكابوس في داخلي؟

«هذا ليس هذيان الشعر 

ولا رؤيا ضبابية للحلم 

ولا خيوط فانتازيا الخيال» 

* مقاطع من رواية شعرية للراحل (شيركو بيكس) تحت عنوان (مقبرة القناديل) ترجمها للعربية (هيوا عثمان).


زهير الجزائري

كاتب وروائي عراقي


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved