المفكر الراحل هادي العلوي: الدولة الكوردية حقٌّ مطلق
المفكر الراحل هادي العلوي: الدولة الكوردية حقٌّ مطلق
July 01, 2024

التقيت عام 1998 في دمشق المفكر العراقي المعروف هادي العلوي قبل رحيله، وأجريت معه هذا الحوار الذي نشر في وقته بالعربية ومترجماً للكوردية في سوريا وتركيا. ونظراً لحيوية الأفكار والرؤى الواردة فيه وملاءمتها تماماً لظرفنا الحالي، وبالرغم من مرور ربع قرن عليه فقد رأينا إعادة نشره مجدداً في مجلتنا «كوردستان بالعربي»: 

جان دوست: تخوضون منذ فترة طويلة غمار التراث الإسلامي، كيف وجدتم صورة الإنسان الكوردي، أو بالأحرى صورة الشعب الكوردي في هذا التراث؟ وهل أنتم متفقون مع تلك الصورة التي قدمها ذلك التراث؟ 

هادي العلوي: ليس هناك ما يشكل صورة للشعب الكوردي في التراث الإسلامي. الكورد من عناصر هذا التراث، وهم مساهمون رئيسيون فيه، إلى جانب العرب والفرس والترك (شعوب الإسلام الأربعة الكبرى)، على أن اتساع ظاهرة التمرد الكوردي واشتداد حالة الصراع اليومي في كوردستان أوجد بعض الارتكاسات الأساطيرية بخصوصهم. فنسبهم بعض الرواة إلى أصول شيطانية، ولم تتحول هذه إلى صورة شائعة، بل هي من الانطباعات العابرة عن الأحداث الجارية في نطاق شعب أو إقليم معين. لقد ارتقى خطيب شهرزور المنبر مرة وقرأ: الأكراد أشد كفراً ونفاقاً، فاعترضه المصلون: ما هكذا الآية، بل هي: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً. فرد عليهم: إن الله لم يأت إلى شهرزور حتى يرى ما يفعل الأكراد. وهذه أقرب إلى النكتة منها إلى الفكرة. وتبدو المصادر الإسلامية لمن يقرأها جيداً، ولا يعتمد على نصوص هامشية منتزعة بتصميم سابق، أكثر ميلاً إلى تكريم الكورد واحترامهم. وقد تحدث المؤرخون عن بعض الأمراء الكورد الذين حكموا في بعض أجزاء كوردستان، بإعجاب شديد، وسجلوا مآثرهم ونددوا بآخرين، كما يفعلون مع غيرهم، كلاً حسب سيرته وأفعاله. وأشاد الأدب الإسلامي ببطولات الكورد في الحروب الصليبية، وفي هذا الشعر تذكر شعوب الإسلام الثلاثة الذين تصدوا للصليبيين، وهو في مدح أحد خلفاء الظاهر بيبرس:

للروم والإفرنج منك مصائبٌ

بالترك والأكراد والعربانِ 

ولم أقف حتى الآن على شعر يندد بالكورد، بينما يندد بالعرب والفرس والأتراك. والأدب العربي الإسلامي حافل بذم العرب، كما هو معروف لقرائه وباحثيه، ولا نجد ما يماثله بخصوص الكورد. إن الصورة التي يتحدث عنها السؤال، هي التي يحاول المستشرقون إيجادها بالاستناد إلى بعض الهوامش لغرض ينسجم مع أهداف الاستشراق كمعرفة مسيسة. وبعضها يستفيد منه القوميون العرب، لا سيما تلك التي تضع أصلاً عربياً للأكراد. وهذه وردت عند بعض المؤرخين في بحثهم عن أصول الأشياء والأسماء، ولم تكن موجهة لغرض سياسي، لأن النزعة القومية لم تكن ظاهرة آنذاك، وهي من نتاج الفكر الحديث الوارد من الغرب. 

جان دوست: ثمة مستويات متباينة في نظرة المثقف العربي إلى القضية الكوردية، والقضايا القومية «قضايا الأقليات كما يحب البعض تسميتها». كيف تقيمون مثل هذه المستويات المتباينة؟ 

هادي العلوي: المثقف العربي، غير العراقي، يعادي القضية الكوردية، ويصدق ذلك على اليسار العربي وليس القوميين العرب وحدهم. إن النظرة السائدة في الوسط السياسي والثقافي العربي للكورد في العراق، هي أنهم أقلية قومية وليسوا جزءاً من أمة كبيرة، وهذا عند التقدميين واليساريين. أما لدى القوميون، فالكورد عرب ناطقون باللغة الكوردية «المأخوذة بدورها من العربية»! وقد قال لي قومي عربي مرة: الكورد إخوتنا، قلت: نعم، لأنهم عرب! وكان هذا هو غرضه من جعلهم إخوة له. لا تنتظروا الصدقات من أحد. فالحق لا يأتي إلا بالقوة. وسواء أيدكم المثقف العربي أم ناهضكم، فهو لا يقدم لكم شيئاً ولا يستطيع أن يمنع عنكم شيئاً، وهو عاجز عن أن يفعل شيئاً لنفسه فكيف لغيره؟

جان دوست: لكم مشروع قاموس كبير، تسمونه كما سمعت: مشروع العمر. ما هو نصيب الكورد في هذا المشروع الثقافي المهم؟ 

هادي العلوي: لا شأن للكورد بمشروعي المعجمي. هو مشروع للغة العربية، يسعى لحل مشكلات لغة البحث والاصطلاح العلمي، وهو أمر يخص العرب وليس الكورد. وغاية ما يقال هنا، إن مؤلف هذا المعجم عربي قح، لكنه نصير للأمة الكوردية، ويعتبر كوردستان العراق أرضاً محتلة كفلسطين تماماً. وهذه صفة المؤلف لا صفة القاموس. وهي أيضاً مجرد صدفة. فقد يكون مؤلف قاموس آخر قومي عربي، يتمسك بعروبة كوردستان ويفضلها على عروبة فلسطين.

جان دوست: الدولة الكوردية حلم الملايين من الكورد. هذا الحلم يتعرض للاغتيال مع كل محاولة جادة لإقامة دولة كوردية مستقلة. ويلاحظ المرء من خلال قراءة الواقع والتاريخ، أن هناك حالة فوبيا عامة من طرح مثل هذه المسألة، سواء في الغرب، أو لدى الذين يسيطرون على أرض كوردستان. ترى ما مصدر هذه الفوبيا؟ وما الذي ستخسره شعوب المنطقة وحكامها بعد نشوء دولة كوردية ربما تساهم في خلق استقرار أمني كبير في المنطقة بعد خروج القضية من ساحة اللعبة الدولية كورقة في يد الجميع لخلق حالة توتر دائم؟ 

هادي العلوي: نعم هو رهاب الكورد، مرض مشترك للغرب كله عدا استثناءات. وللعرب كلهم عدا استثناءات، وللفرس والأتراك باستثناءات أحادية. لقد استوعب كلهم دولة إسرائيل ويتعذر عليهم استيعاب دولة كوردستان التي يراد إقامتها على أرضها ومن سكانها أنفسهم. أمة عريقة تسبق شعوب المنطقة كلها إلى التوطن في إقليمها، لا يحق لها إقامة وطن قومي باتفاق الجميع. وليس لدي تفسير لهذا الرهاب الذي يصيب الكثير بسبب الكورد، مع أنهم أقاموا دويلات عديدة ناجحة في أنحاء كوردستان على امتداد العصر الإسلامي، ومنهم ظهر أعظم قائد إسلامي بعد محمد وأصحابه، وهو صلاح الدين الذي ينتمي، كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية إلى أشرف شعوب الكورد. الدولة الكوردية يجب أن تقوم. ولا يعنيني أن يغضب علي القوميون العرب الذين تستفزهم هذه الكلمة المحرمة. وقيام الدولة الكوردية حق مطلق ولا يرتهن باعتبارات أو ذرائع أو مصالح تتعدى كونه حقاً مطلقاً. وقولك إنها ستساهم في خلق استقرار أمني كبير هو من فعل الترجمة. فأنت أيها الأخ الكوردي تتحدث بلسان دولي مبين. إن الاستقرار حاجة للقوى المتسلطة العاتية، لأنه يؤمن لها بقاء الأوضاع على حالها، بينما رفع الشيوعيون الصينيون في أيام عزهم هذه اللافتة: الاضطراب يعم الدنيا والوضع جياش. وكلما اضطربت الدنيا اقترب المظلومون من نيل رغائبهم. فإذا استقرت وسكنت دام ظلمهم وانسحاقهم. وأنا معك. لتخرج القضية الكوردية من ساحة اللعبة الدولية كورقة في يد الجميع وتكون بيد أهلها.

جان دوست: ما هي برأيكم الصيغة الأنسب للتعايش السلمي بين شعوب الشرق الأوسط؟ 

هادي العلوي: لنحدد. شعوب الشرق الأوسط هي العرب، والكورد، والأتراك، والفرس. والصراع قائم الآن بين هذه الشعوب وتغذيه الإمبريالية، وهو مع ذلك مسؤولية الشعوب نفسها. فالعرب والأتراك والفرس يضطهدون الكورد ويحتلون بلادهم. والشعوب تشارك في هذا الاضطهاد، فهو ليس فعل الحكومات وحدها. إن الشعب العربي والشعب الفارسي والشعب التركي يوافق على احتلال كوردستان ويرفض النظر إليها كإقليم مختلف، وقابل للانفصال. العرب يعتبرون الكورد عرباً والأتراك يعتبرونهم أتراكاً، والفرس يعتبرونهم فرساً. وحتى الذين يؤيدون القضية الكوردية في هذه الشعوب لا ينظرون إليها كقضية أمة مجزأة ومحرومة من وطنها القومي، بل ينطلقون من كونها قضية أقلية قومية، يدافعون عن حقوقها ضمن دولتهم. الأتراك بدورهم يحتلون أجزاء من الأراضي العربية، ويتحكمون في الأنهار العراقية ويعملون على قطع الرافدين لارتفاع ظاهرة التصحر في العراق. والفرس من جهتهم يحتلون الضفة الشرقية لشط العرب، ويعملون لتوسيع حدودهم على حساب العراق. وهكذا فالصراع قائم في المنطقة بين الشعوب نفسها. ولا أرى أفقاً للتعايش السلمي بينها، ما لم يتخلَّ كل شعب عن مطامعه في البلد الآخر، ويجري إقرار حق الكورد في الاستقلال وحذف المطامع التوسعية الإيرانية في العراق، وإيقاف المخططات التركية ضد النهرين وإعادة الأراضي العربية التي تحتلها تركيا إلى أصحابها. 

لمحة عن هادي العلوي:

ولد هادي العلوي الملقب بأبي الحسن في بغداد عام 1932، وتلقى معارفه الأولى على يد جده سيد سلمان وفي مكتبته الغنية في مجالات التراث والفقه واللغة والتاريخ. حفظ القرآن ونهج البلاغة، كما حفظ الكثير من الشعر العربي. تخرج من كلية التجارة والاقتصاد بتفوق عام 1955. ساهم منذ بداية الخمسينات في الحركة الوطنية العراقية وتحول في وقت مبكر إلى النهج الماركسي وأقام صلات وثيقة مع الحركة الشيوعية. اضطر لمغادرة العراق منذ عام 1976 وتنقل بين الصين ولندن وبيروت ودمشق التي توفي فيها يوم 26 أيلول 1998 وهو في قمة عطائه الفكري. اقتدى الراحل بشاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري في الامتناع عن أكل اللحم وبقي نباتياً إلى حين وفاته. كما أنه كان يمارس الزهد وعاش حياة متقشفة بالرغم من مرض الربو الذي كان يضغط عليه وكان من الأسباب التي أدت إلى وفاته. أصدر هادي العلوي عدداً من المؤلفات أهمها: «نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي». «فصول في تاريخ الإسلام السياسي». «مدارات صوفية». «شخصيات غير قلقة في الإسلام». «فصول عن المرأة». «المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة». كما نشرت أعماله الكاملة عن دار المدى.


جان دوست

شاعر وروائي ومترجم كوردي،صدر له العديد من الكتب والروايات وترجم العديد من الروائع الكوردية إلى العربية


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved