في خضمّ الحروب، تُصبح الطفولة أكثر عرضةً للضياع. فتَفكُّك العائلات، وتدمير المنازل، وفقدان الشعور بالأمان، كلّها عوامل تُؤدّي إلى أزمات نفسية عميقة لدى الأطفال. للأسف، خلّفت الحروب في منطقتنا آلاف الأطفال من دون رعاية نفسية مناسبة، ممّا ينذر بجيلٍ قادمٍ نشأ على وقع العنف، بلا أيّ يدٍ حانية تُخرجه من ظلمات تلك الحياة القاسية المليئة بأزيز الرصاص وسفك الدماء وأخبار القتل اليومية.
يُمثّل مركز «كولتورفان» واحداً من المراكز والجمعيات النادرة في المنطقة الكوردية في شمال شرقي سوريا التي تُعنى بالأطفال في زمن الحرب.
يقول كرناس شيخموس رئيس المركز لمجلة «كوردستان بالعربي»: «رأيتُ أطفال عامودا يقلّدون الكبار في المعارك، يحملون ما يظنّونها أسلحة، يُمثّلون القتال، معتقدين أنّها مجرّد لعبة. حينها، أدركتُ أنّ الحرب قد تحوّلت إلى لعبة أطفال، فقلتُ في نفسي: يجب أن نمدّ يد المساعدة لهؤلاء الأطفال وننقذهم من براثن الشارع».
شيخموس، موسيقي وممثل وطباخ محترف، عمل في بلجيكا كمنظم لأمسيات موسيقية فنية في العاصمة بروكسل. وخريج معهد التمثيل في القاهرة، حيث درس تحت إشراف الدكتور محمد عبد الهادي. كما تخصص في العزف على الآلات الإيقاعية على يد أهم الأساتذة، مثل كامكاران وعندليبي. وبعد أكثر من عشرين عاماً من العيش والعمل في أوروبا، قرر العودة إلى مسقط رأسه عامودا في عام 2020.
هناك في عامودا، واجه شيخموس واقعاً ثقافياً وفنياً مُحطّماً في شمال شرقي سوريا، وازداد قلقه في سلوكيات العنف لدى الأطفال خصوصاً طريقة لعبهم في الشوارع. هزّه هذا المشهد وأثار قلقه على مستقبل الجيل القادم. فبدلاً من الذهاب إلى المدرسة، وممارسة الأنشطة الإبداعية، واللعب، كان الأطفال يعيدون تمثيل مشاهد الحرب في حياتهم اليومية.
أحاط شيخموس مشاعرُ الفقر واليأس من كل جانب، لكنّه لم يستسلم. وعلم أنّ النقص الأكبر هو غياب رؤية مستقبلية لإعادة هذا الجيل إلى مسارٍ بعيد عن الحرب، مسارٍ يمهّد الطريق نحو الأمل والتنمية لمستقبلٍ أفضل.
عندما تسلم شيخموس مفتاح منزل طيني مهجور من صديق له، لم يكن يتوقع أن يتحول هذا المكان إلى منارة ثقافية تُشعّ نورها على مدينة عامودا. دفعته رغبته في التدرب على آلة الدف إلى البحث عن مكان هادئ، فكان هذا البيت هو المُلهم.
لم يكتفِ شيخموس بجعل البيت مساحةً خاصة به، بل قرر تحويله إلى ملتقى ثقافي للجميع، يلتقون فيه لمشاركة مواهبهم وتذوق مختلف الفنون والموسيقى.
واجه شيخموس العديد من التحديات في سبيل تحقيق حلمه ولم يستسلم. واستمد عزيمته من تجربته السابقة في إدارة مشروع ثقافي مماثل في بروكسل، وعمل بلا كلل على ترميم البيت وتجهيزه ليصبح مركز «كولتورفان» كما هو عليه الآن.
يتولى شيخموس حالياً الإدارة العامة لمركز «كولتورفان»، بالإضافة إلى تدريس العزف على الآلات الإيقاعية والإشراف على تحضير الطعام الصحي النباتي في مطعم المركز. كما يساهم في تطوير المركز وتوسيع خدماته لتلبية احتياجات المجتمع.
آلاء دحام عبد الفتاح، زوجة كرناس شيخموس، تُشارك في مسيرة المركز. وكانت عملت مستشارة تطوعية لمهرجان الفيلم العربي في روتردام. وتعود آلاء بذاكرتها إلى عامودا، مسقط رأسها ومقر مركز «كولتورفان»، قائلة: «اشتهرت عامودا في الخمسينات بثقافتها النابضة بالحياة، حيث كانت تُعدّ ثاني عاصمة ثقافية للكورد بعد السليمانية. وضمّت البلدة آنذاك ثلاث دور سينما، على الرغم من أنّ عدد سكانها لم يتجاوز عشرين ألف نسمة».
تُعرف عامودا شعبياً بكونها مهداً للعديد من المثقفين، من شعراء ورسّامين ومغنّين وكتّاب. وتستعيد آلاء، ابنة اللغوي الكوردي المعروف دحام عبد الفتاح، ذكريات حيوية لعامودا وتأثيرها الثقافي العميق على الكورد السوريين، وتضيف: «لطالما حلمتُ بالمساهمة في أيّ مبادرة تُعيد للمدينة بريقها الثقافي الذي فقدته بعد حريق السينما واندلاع الحرب في سوريا».
وتقول آلاء لـ«كوردستان بالعربي»: على الرغم من نشأتي ودراستي في الغرب، ظلت ذكريات بلدتي الأم حاضرة بقوة في قلبي. لذا، عندما سنحت لي الفرصة للانضمام إلى مركز «كولتورفان» الثقافي، شعرت وكأن حلماً قد تحقق. لم أتردد في تكريس خبراتي الشخصية والمهنية لخدمة أهداف المركز».
وإلى جانب عملها مديرة لقسم السينما في «كولتورفان»، تعمل آلاء حالياً مديرة مشاريع حكومية وثقافية في هولندا. وتشمل مهام عملها تطوير استراتيجيات بناء المدن والبنية التحتية، بالإضافة إلى مشاريع ثقافية تهدف إلى تطوير المتاحف وتعزيز مفهوم الحرية، وذلك احتفالاً بمرور 75 عاماً على تحرير هولندا.
وتحمل آلاء شهادة بكالوريوس في القانون وماجستير في إدارة الابتكار من هولندا، بالإضافة إلى شهادات مختلفة في التصوير الفوتوغرافي. وتؤكد آلاء: «شغفي الحقيقي يكمن في الكتابة والتصوير الضوئي، كما أنني من عشاق السينما والمهرجانات الثقافية».
يُذكر أن مركز «كولتورفان» يسعى جاهداً لتقديم الدعم النفسي للأطفال المتضرّرين من الحرب، مُساهماً في بناء جيلٍ واعٍ يُدرك قيمة السلام ويُؤسّس لمستقبلٍ أفضل.
إنّ قصّة مركز «كولتورفان» تُجسّدُ روح الأمل والصمود في وجه الظلم والقهر، وتُؤكّد على أنّه حتّى في أحلك الأوقات، يبقى هناك من يُؤمن بقدرة الإنسان على التغيير وبناء مستقبلٍ مُشرقٍ للأجيال القادمة.