«بيت الرحمة» ... الأمل في ولادة نظرة أخرى للسلام
«بيت الرحمة» ... الأمل في ولادة نظرة أخرى للسلام

تتجسد فيه الطاقة الإيجابية، والقدرة على فعل الخير للتخفيف من معاناة الناس وآلامهم، وتمكينهم من مواجهة التحديات، وتحويلها إلى فرص واعدة ومشاريع رائدة.. إنه المطران يوسف توما، راعي أبرشيّة كركوك والسليمانية الكلدانيّة، الذي التقيناه في كنيسة (مار يوسف) بحي بختياري، وسط مدينة السليمانية، بصحبة راعي الكنيسة، القس أيمن هرمز عزيز، ليحدثنا عن واقع حال المسيحيين في المحافظة وما واجهته الكنيسة من مشاكل ونفذته من مشاريع.

«بيت الرحمة»

لم يدر بخلد المرأة التي أودعت جدّها، الذي يعاني من الزهايمر (الخرف)، كنيسة مار يوسف لتولي مسؤولية رعايته، أنها أسهمت من حيث لا تدري، بولادة أحد المشاريع الإنسانية النبيلة والفريدة ليس في العراق فحسب، إنما في الشرق الأوسط عامة.

ولم يدر بخلد تلك السيدة، أن المعنيين في تلك الكنيسة، واجهوا التحدي بنحو إيجابي خلاق جعلهم يفكرون في سبل مواجهة مأساة آلاف يعانون من ذلك المرض اللعين... وضرورة إيجاد مكان ملائم يعنى بأولئك المساكين، وهكذا ولدت فكرة «بيت الرحمة» الذي أصبح مستشفى متكاملاً من خمسة طوابق، لا يعنى بالمصابين بالزهايمر فحسب، إنما بالأطفال المصابين بالتوحد أيضاً.

يقول المطران يوسف توما، إن تلك الحالة «أسهمت في ولادة فكرة «بيت الرحمة» حيث اتصلت عام 2014 بمحافظ السليمانية حينها، د. آسو فريدون علي أمين، للحصول على قطعة أرض مناسبة لإقامة المستشفى فوافق مشكوراً»، ويضيف «بعدها اتصلت بالمهندس المعماري الفرنسي برنارد گايلر Bernard Geyler وهو صديق لي لوضع تصاميم المستشفى وإمكانية مساعدته في تنفيذه، فوافق مشكوراً على ذلك وتبرع بمبلغ هو ثمن بيع بيته لتمويل المشروع».

ويتابع «اتصلت بعدها بالمهندس الكركوكي قاسم إبراهيم حافظ لإعداد المخططات التفصيلية للمشروع وتم تكليف المهندس ديلان لطيف بولس بمهمة تنفيذه كما استقدمت كادراً تمريضياً متخصصاً بعلاج مرضى الزهايمر والتوحد من الهند لرعاية المرضى»، ويواصل أنه منذ عام 2017 «تواصلت الجهود الخيرة حتى افتتاح مركز ميرسي ماري، أو رحمة مريم، الطبّي المتخصّص برعاية المسنّين لا سيّما مرضى الزهايمر والأطفال المصابين بالتوحّد ليقدم خدماته للمحتاجين كافة من دون تفرقة أو تمييز مهما كانت ديانتهم».

ويلخص المطران يوسف توما نظرته لـ«بيت الرحمة» بقوله إنه «الأمل في ولادة نظرة أخرى للسلام ومساعدة متبادلة وإخوة ضمن هذا الخليط من الشعوب والجماعات التي يشكلها العراق لاسيما أن كل إنسان يتألم هو أثمن مشروع».

معضلات وحلول مبتكرة

وهكذا بات «بيت الرحمة» حلاً مبتكراً أوجده المطران يوسف توما لمعضلة عويصة تواجه المجتمع، فضلاً عن حلول مبتكرة أخرى عديدة لمعضلات كانت تؤرق بال المعنيين في كركوك والسليمانية، منها مشكلة مقبرة المسيحيين في السليمانية، التي كانت مرتعاً للسكارى والمارقين، فحولها نيافة المطران إلى واحة خضراء بعد أن سيَّجها، وبنى فيها كنيسة صغيرة وداراً أسكن بها عائلة مسيحية لتحرسها وترعى شؤونها.. وكذلك الحال في مقبرة كركوك.. ومشكلة الحي المسيحي في كركوك، الذي كاد سكانه يهجرونه لولا قيامه بمتابعة استكمال خدماته، وبناء قاعة للمناسبات فيه، والمباشرة بحملة تشجير واسعة النطاق، بالاستعانة بصاحب أفضل مشاتل المدينة، وبمساعدة شباب الحي، وحفر فيه بئراً وأقام خزّاناً لحفظ الماء لسقي المزروعات حفاظاً على ديمومتها.. وصولاً إلى قيامه بالتوسع بالاستفادة من منظومات الطاقة الشمسية لتقليل الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة (الكهرباء الوطنية وتلك الناجمة عن المولدات) لتقليل النفقات واستهلاك الوقود اللازم لتشغيل المولدات، فضلاً عن الحفاظ على البيئة.

المسيحيون في السليمانية

وبالعودة إلى الوجود المسيحي في السليمانية، يقول المطران يوسف توما، إن «وجودهم لا يتجوز 234 عاماً وإنهم يتمتعون بسمعة طيبة ويحظون بمعاملة كريمة»، ويشير إلى أن عددهم حالياً «لا يتجاوز الـ200 عائلة بعد أن وصل خلال أيام النزوح الناجم عن العنف في العراق إلى قرابة 800 عائلة». 

ويعزو السمعة الطيبة التي يتمتع بها المسيحيون في السليمانية إلى «ما قام به التاجر المسيحي كريم علكة خلال الحرب العالمية الأولى حيث كان يبيع أملاكه ليشتري الحنطة ويوزعها على الفقراء والمحتاجين»، فضلاً عن «الرعاية الكريمة التي وفرها لهم أهالي المحافظة والجهات المعنية فيها».

كريم علكة، هو عبد الكريم إلياس بولس إبراهيم (1876 ـ 1948)، الذي كان تاجراً أميناً محباً للخير ومثالاً للشهامة والكرم والصدق والأمانة.. اختاره ملك كوردستان محمود الحفيد، ليكون وزيراً للمالية في حكومته عام 1922.. وقد أطلقت السلطات المحلية في السليمانية أسم الشارع الذي يمر من أمام منزله باسم شارع كريم عَلَكة.. كما سميت المدرسة الواقعة في الشارع باسم مدرسة كريم عَلَكة.

ويضيف نيافة المطران، أنه على العكس من ذلك كانت تتواجد في كركوك «ثاني أقدم كنيسة بعد تلك الموجودة في كوخي، بمنطقة المدائن جنوبي بغداد، وكانت تضم أسقفية برئاسة المطران تيوكريت (أسم يوناني يعني قوة الله) عام 113 حيث كان كرسي كركوك يحكم منطقة شاسعة تمتد من أربيل إلى سنندج في إيران»، ويتمنى «تواصل التنقيبات الأثرية لاكتشاف الآثار المسيحية في كوردستان معتقداً أن الكنيسة التي اكتشفتها بعثة فرنسية عراقية مشتركة في منطقة بازيان، (47 كلم غرب مدينة السليمانية)، عام 2011 أقدم أثر مسيحي في إقليم كوردستان».

معاملة إيجابية

ويذكر نيافة المطران، أن الكنيسة «ركزت على رعاية المسيحيين النازحين وتدبير أمورهم وضمان عدم هجرتهم من العراق»، ويرجع الرعاية الكريمة التي يحظى بها المسيحيون سواء في السليمانية أم إقليم كوردستان بعامة إلى «طبيعة الشعب الكوردي الذي طالما عانى من الاضطهاد والظلم وذاق مرارة التهجير لذلك تفهم معاناة المسيحيين وأحسن وفادتهم حتى صار بين الطرفين (الكورد والمسيحيين) نوعاً من التكافل والتكاتف لاسيما أن كل غريب للغريب نسيب».

ويشيد راعي أبرشيّة كركوك والسليمانية الكلدانيّة، بـ«المعاملة الإيجابية التي أبدتها سلطات إقليم كوردستان تجاه المسيحيين ما جعلهم يشعرون بالسلام والأمان»، وينوه إلى أن المسيحيين عندما جاءوا إلى كوردستان «عوملوا كأنهم كورد لذلك انتعشت مناطقهم لاسيما عنكاوا في أربيل وأصبح لديهم كنائسهم ومدارسهم وجامعاتهم، ولعلنا لا نبالغ عندما نقول إن وضع المسيحيين في إقليم كوردستان أفضل منه مقارنة بباقي مناطق الشرق الأوسط».

جدل الهوية والانتماء

وبشأن الوضع الحالي للعراق، وأحوال المسيحيين فيه، يرى المطران يوسف توما، أن حال البلد «يشبه حال الدول الأوروبية خلال المدة المحصورة بين الحربين العالميتين 1918 و1933 لاسيما أن كثيراً من العراقيين لا يفرقون بين الهوية والانتماء»، ويلفت إلى أن الهوية «تعتمد على الماضي المليء بالأساطير والخرافات بينما الانتماء يعني المستقبل».

ويدعو المطران إلى «إعادة النظر في الأساطير والسرديات القديمة وترك غير المفيد أو المثير للخلافات والجدل منها والتركيز على المستقبل»، وأن «العنف مرض والشعوب المريضة هي التي تلجأ إلى العنف في حين أن حل المشاكل ومواجهة التحديات يتطلب دستوراً عادلاً وقضاءً لا يعلى عليه بعيداً عن الأيديولوجيات».

ويعرب عن أسفه لأن هنالك من «لا يفهم بعدُ أن زمن التعصب والأيديولوجيات قد ولى وأن المحاصصة لا تفيد»، مشدداً على ضرورة «اعتماد مبدأ الكفاءة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب لمواجهة التحديات الكثيرة التي تواجه البلد ومنها التصحر على سبيل المثال لا الحصر».

ويواصل راعي أبرشيّة كركوك والسليمانية الكلدانيّة، أن هنالك دولاً «كانت تعاني التخلف والجوع قبل نحو 100 سنة لكنها باتت اليوم مثالاً للتقدم والتطور وتنعم شعوبها بالحياة الكريمة»، مؤكداً على ضرورة «اعتماد الفكر الإيجابي وتقديم أهل الخبرة والكفاءة والعمل بالمثل القائل: بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة».

أيتها الأغلبية لا تسحقينا

ويرفض نيافة المطران يوسف توما، اعتبار المسيحيين «أقلية في العراق»، مشدداً على أنهم في العراق من «أقدم المجتمعات المسيحية في العالم وأنهم مواطنون تمتد جذورهم في المنطقة إلى العصور السحيقة كما أثبتت الكشوفات الأثرية»، داعياً إلى أهمية «حماية التعايش والاختلافات ليكون المستقبل أفضل من الماضي وأن يصبح إقليم كوردستان مثالاً للمناطق الأخرى في التعايش».

ويطلق المطران صرخة بوجه من يستغل منطق الأغلبية للهيمنة وفرض الإرادة، مفادها «أيتها الأغلبية لا تسحقينا نحن المكونات الصغرى في البلد»، منوهاً إلى أن وضع العراق «لن ينصلح ولن تقوم له قائمة إذا لم يتم التخلص من الفساد واعتماد مبدأ الكفاءة ونبذ التعصب».

وبشأن الرسالة التي يرغب إيصالها، يقول المطران يوسف توما، إنها تتلخص في «ضرورة التفكير الإيجابي والتخلص من عقد الماضي وسلبياته والتفكير في المستقبل والأجيال الجديدة وكيفية مواجهة التحديات التي تواجهنا ومنها البيئية»، ويتابع على الجميع «إدراك أن زمن التعصب والأيديولوجيات قد انتهى وأن الانتماء هو المستقبل وأن من الضروري فصل الدين عن الدولة وأن طريق الانسجام ممكن بين مكونات العراق كافة وأن العيش المشترك هو الخيار الأوحد لبناء مجتمع عادل قادر على ضمّ الجميع».

نبذة تعريفية

يوسف توما مرقس ولد في 21 حزيران / يونيو 1949 بالموصل. كاهن كاثوليكي كلداني عراقي، ورئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في كركوك والسليمانية منذ 24 كانون الثاني/ يناير 2014، وصحفي وناشط في مجال حقوق الإنسان. درس في معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي في الأعوام (1962 - 1971)، والتحق بالرهبنة الدومنيكية وأكمل دراسته في باريس وحصل هناك على شهادتي دبلوم الدراسات المعمقةDEA  من جامعة نانتير في علم الأجناس البشرية، والدكتوراه في اللاهوت العقائدي من جامعة ستراسبورغ. رُسم كاهناً في الموصل في 26 آذار/ مارس 1980، وأسهم في تأسيس كلية بابل الحبرية ودرّس فيها. ترأس منذ 1995 إلى 2014 تحرير مجلة «الفكر المسيحي»، وله عدة إصدارات وأكثر من 700 مقال. أشرف على نشر أول طبعة كاثوليكية للعهد الجديد والمزامير باللغة الكردية (اللهجة السورانية). يتكلم العربية والكلدانية والفرنسية والإنكليزية.


باسل الخطيب

صحفي عراقي


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved