البحث عن ثدي بديل قصة «الرضيع» ليشار كمال
البحث عن ثدي بديل قصة «الرضيع» ليشار كمال
August 03, 2024

في كتابه «مسألة التكنولوجيا» يشير مارتن هايدغر إلى الفرق بين استغلال الأرض بوساطة الآلات الزراعية وبين تحنن الفلاح عليها بتركه «البذور لقوى النمو الكامنة فيها». الفرق بين الحالتين هو أننا في الحالة الأولى نُرغم الأرض على تسليم ما لديها، إذ نستهلكها ونستنزفها، بينما في الحالة الثانية نترك لقوى الطبيعة العمل من دون تدخّل منا. يشبّه هايدغر الأمر بالعملية العسكرية حيث «كل شيء صدر له الأمر بالتأهب كي يكون في متناول اليد فوراً، بل ليكون واقفاً متأهباً لتلقي المزيد من الأوامر».

يكاد يكون هذا الشرخ الذي أحدثته الآلة في علاقة الإنسان بالأرض الموضوع الرئيس في أعمال الروائي الكردي التركي المرشح لجائزة نوبل عام 1973 يشار كمال. ففي أعماله نتلمس نقداً شديداً للآلة وللتغييرات الاجتماعية التي أحدثتها مع بدايات الانتقال إلى التصنيع واستخدام وسائل الإنتاج كالجرارات والحصادات. مع هذه التغيرات تحول الفلاحون إلى عمال لدى البرجوازيين وكبار ملاك الأراضي، ما جعل الطبقة الفقيرة عبدة لا للسيد الإقطاعي والبرجوازي فحسب، بل لآلته أيضاً.

هذا النقد المكرر في أعمال يشار كمال يصبّ في صالح الفكرة الاستحواذية لديه، وهي أن الطبيعة جزء من الإنسان كما هو جزء منها.

هذا الشرخ الذي يصور الأديب تداعياته في المجتمع الكردي خاصة والتركي عامة لا يظهر المُتأثرين به كطبقتين اقتصاديتين مُستغِلة ومستَغلة فحسب، بل كطبقة فاقدة للإنسانية وأخرى عاجزة عن التمسك بثرائها الإنساني وسط فقر واستغلال منقطعَي النظير. غاية الأديب ليست تصوير الفقر والجور فحسب، بل توجيه الأنظار لتلك الثروة الطبيعية التي فقدناها في نفوسنا وفي طبيعتنا، فيقول: «لقد عشت في جوقوراوا عندما كان الإقطاع مسيطراً فيه، كانت آنذاك منطقة مغطاة بالغابات والأحراش والمستنقعات، وفيها آلاف الأنواع من الطيور والفراشات والزهور. لكن ما حدث بعد ذلك هو اختفاء كل هذه العناصر والكائنات دفعة واحدة وتحول هذا السهل الشاسع إلى حقول ممتدة... ومع تغير الطبيعة تغيرت طباع الناس أيضاً».

لقد اتسعت مساحة الاقتصاد فضاق العش الحميمي الذي كان يأوي الناس آنفاً، ودفاعاً عن هذا العش يكرّس الأديب نفسه لتصوير معاناة الطبقة المُستَغلة المطحونة بيد الآلة الغازية. 

وكمثال عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة التي يدافع عنها الأديب سنتناول من بواكير أعماله قصة بعنوان «الرضيع» والتي نُشرت ضمن مجموعته القصصية الأولى عام 1952 وتدور حول سعي فلاح يدعى إسماعيل لإيجاد مرضعة لطفله بعد أن فقد زوجته زالا التي أُنهكت في أعمال الحصاد أيام حملها الأخيرة. كانت زالا تكد لتتخلص من العمل لدى الآخرين، فتقول: «كنت أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر حتى أعمل في محصولي وأتخلص من العمل في حقول الآخرين، وسأظل أعمل حتى لو تهشمت عظامي أو مت».

يشار كمال أيام شبابه

 

من خلال ثنائية الإنسان/الآلة ورموز من العالم الطبيعي والأمومي ينسج الكاتب في هذه القصة البسيطة عالماً يُفهم لا بربط مباشر بسياقه التاريخي الحقيقي فحسب بل يضرب بجذوره عميقاً في مراحل تاريخية سابقة وينبئ بتغيرات لاحقة.

ففي مهمة إسماعيل الشاقة للبحث عن الحليب لرضيعه لا يلتفت السرد لما حصل على المستوى السياسي والاقتصادي بل لأثر ذلك على العنصرين المتضررين الأساسيين من هذا الاستغلال، وهما الأرض والمرأة. إن احتضار الأم زالا واحتضار الأرض متلازمان، كلتاهما مستباحة، وكلتاهما تدفع الأثمان. تموت زالا كما تموت الأرض تحت دوس أقدام مستغليها أما رضيعها الجائع فيتنقل من يدٍ إلى يد لا يُشبعه شيء ويبكي ليل نهار. 

إن هذا الرضيع هزيل الرقبة هو ابن المرحلة القلقة هذه، ابن بلا أم، بلا أرض، طفل وُلِد مقابل ثمن باهظ؛ قتل أمه.

إن المشاهد المكررة حول البحث عن ثدي بديل وهدر الحليب والحاجة له وارتباطه بالحياة والموت يشير إلى ما افتقدته هذه المجتمعات؛ الطبيعة وهباتها. الحليب المتدفق، الحليب المهدور، الحليب المفقود، الحليب المسموم، الحليب المنقطع بانقطاع الحب والثدي الجاف، هي كلها صور لحيرة الجائع في عالم يبتعد عن الطبيعة ويتلاعب بها ما حلا له. وبدل التركيز على استغلال الأرض، يكرس الأديب سرده للمصدر الأول للحياة والغذاء؛ حليب الأمهات. وهكذا فمن أجل إشباع الطفل تتناوب نساء القرية على إرضاعه؛ الفلاحة مجهولة الاسم، أمينة العرجاء، حورو وحتى الفتاة دوندو. يزيد الكاتب من جرعة الإيمان بالطبيعة حين يُشرك هذه الفتاة التي لا يدر صدرها الحليب بعد في عملية إنقاذ الرضيع من الموت، إذ بمجرد أن تلقم الرضيع صدرها يهدأ وينعكس الرضا عليها فتقول: «خالة جنت، أشعر بشيء لذيذ يسري في جسدي كلما أرضعت الطفل، ليته يرضع حتى المساء. بل ليت عشرة مثله يرضعون..» فترد عليها العجوز قائلة: «أيتها المجنونة... كلنا نشعر بذلك».

إن الطبيعة تعرف عملها وتحاول مد يدها لإنقاذ أبنائها، إنها تسعد بالأخذ والعطاء ويظهر هذا جلياً في شعور الفتاة دوندو تجاه الرضيع. لكن الطبيعة تُعاق بشدة أيضاً بفعل الأيادي البشرية وهكذا مثلا يُحرم الرضيع من حليب زوجة موسدولو لأن الأخير يرفض أن يهدر حليب زوجته على طفل ليس طفله. حليب الزوجة ملكية الزوج، وهنا أيضاً نرى أن التحكم بحليب الأم رديف للتحكم بهبات الأرض.

في استغلال واسع النطاق للأرض والنساء، نجد أنه بينما لا يجد إسماعيل حليباً لرضيعه، هناك أمهات محرومات من إرضاع أطفالهن بسبب اضطرارهن للعمل في الحقول مثل حورو التي «تركت صغيرها في البيت وثدياها طافحان بالحليب وهي تحلبهما على التراب منذ الصباح»، لا يمكن أن تتلاعب بالطبيعة وتدّعي احترامها أو الإيمان بها في ذات الوقت.

يشار كمال في إسطنبول

 

هذا الربط بين المرأة والأرض يظهر جلياً في مشهد توسل إسماعيل إلي الآغا للسماح له بنقل زوجته إلى الطبيب. لا يظهر المُستغِل، الآغا، في القصة إلا في مشهد واحد لكن حضوره قاطع وحاسم في رسم أقدار الآخرين. يردّ الأغا على طلب إسماعيل بالقول: «إنهن يرقدن ويرقدن ثم يهبن معافيات. إنهن لسن بحاجة إلى أطباء. إن أجسادهن من حديد».

إن الاستغلال الجسدي الأنثوي وهو في عمق تحولاته يشبه كثيراً استغلال جسد الأرض، قتل التلقائية والدورة الطبيعية للولادة والشفاء في النساء شبيه بقتله في الطبيعة. في مثل هذا الاستغلال يسود صوت المالك لا صوت الطبيعة، «ليكن كل ما أملكه حلال لك كما هو حليب أمك. قطني وسمسمي وحنطتي أعطني خمساً وعشرين ليرة فقط» يقول الزوج متوسلاً الآغا، لكن المستغِل قتل مصادر الحياة الطبيعية، فحتى حليب الأم لم يعد حلالاً.

تظهر ثنائية المرأة / الأرض كذلك في مشهد توسل إسماعيل للمضمّد من أجل علاج زوجته المُحتضرة، إذ يقول: «فوضعتُ النقود أمامه وقلتُ له: هاك هذه النقود، وازرقها بإبرة، أليس كل شيء بأجره؟ أريدكَ أن تزرق تلك الشجرة بإبرة، أريدك أن تزرق بها بغالي... فزَرَقها بإبرة، وطلبت منه أن يزرقها بثانية وثالثة. إن لزالا عليّ فضلاً كبيراً...». في هذا المشهد يشبّه الأديب زالا بـ«الشجرة»، ولم تأتِ هذه الاستعارة من عبث، المرأة هي شجرة، هي الطبيعة نفسها، لكن إبرة المضمد شبيهة بآلة الزرع والحصاد، لا تعالج بل تقتل. أما ما يتبقى بعد موت الأم / الأرض فهو طفل هزيل الرقبة / أرض هشة يمكن أن تهوي في أية لحظة.

الأمل لا يُقهر على الرغم من كل شيء، فالأديب، الذي تُرجمت مؤلفاته إلى أكثر من 30 لغة، مؤمن بأن العودة للطبيعة لا مفر منها. وفي مقدمة الترجمة العربية للمجموعة القصصية يقتبس المترجم عبد الوهاب الداقوقي من قول الأديب: «إن عالم القرية وأناسها مثل أي موجودات الكون، في تبدل مستمر. في القرية يولد الإنسان والطبيعة كل يوم جديد. أما أولئك الذين يظنون أن القرية قد زالت أو في طريقها إلى الزوال عن الوجود أمام زحف المدن... هؤلاء أعتبرهم غير سليمي العقول... أظن أن مرحلة الهجرة من المدن إلى القرى قادمة قريباً».


هيڤا نبي

روائية وأكاديمية كوردية من سوريا، حاصلة على إجازة في الأدب الفرنسي وماجستير في الأعمال الروائية


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved