علي مردان: من التكية إلى لَيلان
وُلد الفنان علي مردان عام 1904 في محلة تكية الشيخ علي الطالباني في مدينة كركوك. كانت محلة تكية، كما يروي في مذكراته، ملتقى لقراء وحفاظ القرآن الذين يشدون بتلاوة آي الذكر الحكيم بأصواتهم الرخيمة. يقول مردان: «كانت أيام الخميس والجمعة أجمل وأبرز الأيام بالنسبة لي، بالإضافة إلى أيام المناسبات، لأنها كانت تتيح لي فرصاً للاستماع إلى تلك الأصوات الجميلة. وكنت أنا نفسي أحد تلاميذ هذه التكية».
كانت هذه البداية المؤثرة التي دفعت الفنان علي مردان لتتبع أصول هذه المقامات التي كان يسمعها من الحفاظ وقارئي القرآن. كان هو نفسه صوتاً جميلاً في التكية والمحلة. وعند إتاحة أدنى فرصة، كان ينتظر أمام باب حجرة التدريس ليستمع بكامل إحساسه إلى تلك المقامات والألحان الشجية.
عند بلوغه السادسة من العمر، أرسله ذووه إلى حجرة التدريس ليتتلمذ على يد أستاذه الملا صالح. وكان علي مردان واثقاً من نفسه إلى درجة أنه عند غياب أستاذه، كان يبدأ بتلاوة القرآن بصوته الجميل لزملائه. وفي يوم من الأيام، أخبر أحد التلاميذ أستاذه الملا صالح: «يا حضرة الأستاذ، عندما تكون غائباً عن الحجرة، يقرأ لنا علي مردان القرآن بصوت رائع».
فناداه الأستاذ قائلاً: «يا علي مردان، تعال واجلب مصحفك لأرى ما إذا كانت تلاوتك سليمة! واقرأ لنا سورة (إنا فتحنا)».
بدأ مردان التلاوة باستحیاء وخجل، وقرأ أكثر من صفحة، حيث أوقفه أستاذه وقال له: «قف هنا، أطال الله في عمرك». ثم التفت إلى باقي التلاميذ، وقال: «عليكم بتلاوة القرآن بهذا الشكل وإلا سوف أعاقبكم بالفلقة».
وكان هذا التشجيع كفيلاً بأن يجعل من علي مردان شخصاً مبتكراً ومبدعاً في صقل مواهبه في المقامات الكوردية، إلى أن وصل إلى مستوى يمكنه من أداء مقام «الخورشيد» و«آي آي» و«الهورة» على أحسن وجه. واستمر على هذا النهج، يتعلم كل يوم شيئاً جديداً، حتى تمكن خطوة بخطوة من بلوغ مستوى رفيع في فنون المقامات.
وصلته أخبار عن فتح الدولة مدرسة رسمية في كركوك باسم «المدرسة السلطانية»، وكان موقع المدرسة في مكان حدائق المجيدية ويشرف على نهر خاصة مقابل القلعة التاريخية. وبذلك، كان من أوائل تلاميذ هذه المدرسة.
بعد وفاة والد علي مردان، استولى خاله عارف على كل ممتلكات والده في كركوك، ونقلهم إلى قرية (ناحية حالياً) ليلان. في تلك المنطقة، وفي ديوان الشيخ حسيب الطالباني، تعرف علي مردان على قارئَي المقام خضر بارام جاويش وكامل تبه لويي، اللذين كانا يحضران مجالس ذلك الديوان.
كان لخضر بارام جاويش معرفة واسعة بالمقامات الأصيلة، كما ويعزف الطنبور بشكل جيد أيضاً. أما كامل تبه لويي، فكان يقرأ مقام «الله ويسي» بشكل ممتاز، وهو المقام الذي كان يحبه علي مردان كثيراً. تعلم مردان بشكل أساسي من هذين الفنانين مقام «الله ويسي»، بالإضافة إلى مقامات «آي آي»، و«خاوكر»، و«خورشيدي».
كان علي مردان يزور باستمرار قراء المقام في كركوك، مثل محمد خليل، والحاج نعمان القصاب، وسيد أحمد الحداد، وعلي قلعَيي، وعثمان تبله سَر. كان لهؤلاء جميعاً دور وتأثير كبيرين في تطور مستواه الفني.
من حفتغار إلى بغداد... هروب علي مردان والبحث عن الأمان
هرباً من الظلم الذي كان يتلقاه يومياً من خاله عارف، قرر علي مردان، الذي كان عمره حينها حوالي ثمانية عشر عاماً، أن يغادر قريته. حاملاً حقيبته المهترئة على كتفه، اتجه نحو قرية حفتغار حيث كان يسكن أقارب ومعارف والده. وصل إلى القرية في وقت متأخر من الليل، واستقر في بيت قريب له يُدعى قادر، الذي استضافه بحفاوة.
بعد فترة وجيزة، تمكن أقاربه من إيجاد عمل له مع مفرزة لصيانة وإدامة خط السكة الحديد (كركوك – البصرة) الذي يمر بالقرية، حيث عمل كعامل يدفع الطرزينة (عربة تُستخدم للكشف عن الأعطال والأضرار في خطوط السكك الحديد وتُدفع يدوياً). ولكن بعد فترة من عمله، قُتل قريبه قادر ظلماً، مما دفع أولاده وعائلته للانتقال إلى كركوك والاستقرار في منطقة شورجة.
اضطر علي مردان أيضاً إلى توديع قرية حفتغار. حيث ركب القطار من محطة سليمان بيك القريبة من القرية، حاملاً معه حقيبة تحتوي على قرص من الخبز، بيضة، ورأس بصل، وهذا كان كل ما يملكه ورأس ماله بالكامل.
بداية مسيرة مردان الفنية
وصل الأستاذ علي مردان في رحلته المجهولة تلك وفی صبیحە یوم جدید، إلى محطة باب الشيخ في بغداد. كانت هذه أول مرة یری فیها العاصمة، حيث بدأ حياته العملية فیها كعامل نقل الطين، معتمداً على قوته البدنية في نقل الطين والتراب إلى أسطح المنازل.
بعد ذلك، أصبح واحداً من العمال الموثوقين في مشروع بناء معسكر الهنيدي (الرشيد الآن). وفي وقت قصير، تحسنت حياته إلى حد ما، حيث حصل على عقد عمل ثابت في المشروع، وتم تخصيص مكان لإقامته في نفس مخيم إقامة الأجانب.
من خلال هذه التجربة، تعرف على بغداد من منظور أوسع وفضاء أشمل. واستطاع أن يهتم بموهبته الأساسية خلال فترات الاستراحة في المخيم، حيث كان يحيي حفلات ليلية لأصدقائه ومسؤولي المخيم. فأصبح محط أنظارهم وإعجابهم، وكسب محبتهم.
وعندما كان ينزل إلى بغداد، كان يبحث عن التشايخانات والمقاهي التي يجتمع فيها أرباب وفنانو المقام العراقي. وتمكن من إقامة علاقات صداقة معهم، مما ساهم في تطوير وترسيخ مسيرته الفنية.
المهندس الإنجليزي وأسطوانة «أبو الكلب» وعلي مردان
كان هناك مهندس إنجليزي يشارك بحماس في الحفلات الليلية في المخيم، ويعبر عن إعجابه بفن علي مردان. في إحدى تلك الليالي، ذهب هذا المهندس إلى علي مردان وأخبره بأن شركة تسجيل الأسطوانات ستأتي قريباً إلى بغداد، وأن ممثل هذه الشركة صديقه، وإذا رغب علي مردان، فيمكنه تمهيد الطريق له لتسجيل المقامات والأغاني التي يؤديها على أسطوانات.
يقول علي مردان: «أسعدني هذا الأمر كثيراً، وأبديت موافقتي واستعدادي بسرعة. في بداية سنة 1921، وبالتحديد في شهر كانون الثاني، وفي وقت استلام راتبي الذي كان قدره 25 روبية، جاءني صديقي الإنجليزي وذكرني بأنه من المقرر يوم غد الجمعة أن يلتقي بصديقه ممثل من الشركة. فرحت جداً بفكرة أن صوتي سيسجل على أسطوانات».
وفي اليوم التالي، ذهب علي مردان والمهندس الإنجليزي إلى فندق الهلال الواقع بين حيدرخانة والميدان. سأل المهندس عن ممثل الشركة، الذي كان اسمه حليم حقي. عند اللقاء، قدم المهندس علي مردان إليه كشخص ذي صوت جميل وموهبة فنية، وطلب منه أن يغني. فغنى علي مردان قطعة من مقامي «الله ويسي» و«آي آي»، فأعجب حليم حقي به كثيراً وقرر تسجيل صوته على أسطوانة.
كانت عملية التسجيل في تلك الأيام تتم على أسلاك خاصة تُحفظ داخل أنبوبة وتُرسل إلى الخارج ليتم طبعها على أسطوانات، وكانت في البداية تتم عملية الطباعة هذه فقط في بريطانيا. كان اسم الشركة (His Master's Voice) المعروفة شعبياً بعلامة «أبو الكلب». الفرقة الموسيقية التي رافقت التسجيل كانت تتألف من خمسة أعضاء، جميعهم من اليهود، وكانوا خبراء في عزف المقامات والسلالم الموسيقية، وأعجبوا كثيراً بقدرات علي مردان.
بهذا، وصل علي مردان لأول مرة إلى عالم الأضواء والشهرة وتسجيل الأسطوانات، وكان هذا حدثاً مهماً في عالم الفن والغناء، خاصة غناء المقام الذي يعتبر النوع السائد من الغناء في تلك الأيام. وكانت المقاهي البغدادية تُعتبر مقرات لقراء المقام وأدائه. كان علي مردان يزور تلك المقاهي بانتظام، وإذا غاب، كان يُسأل عنه قراء المقام البغدادي، حيث كان يتغنى ببعض المقامات النادرة والجديدة والغريبة على مسامعهم.
علي مردان وتعليم القبنجي أصول المقام
بعد أن تعرّف الأستاذ علي مردان على قراء وخبراء المقام في المقاهي البغدادية، كان يزور تلك المقاهي مباشرة بعد عودته من معسكر الهنيدي، وخاصة يزور رشيد القندرجي، ومحمود النجار المعروف بمحمود الخشالي، ومحمد القبنجي. وقد قال رشيد القندرجي للأستاذ مردان أكثر من مرة: «أنت أستاذي، وأنا تعلمت منك المقام بأصوله الصحيحة والأصيلة».
مطرب المقام الفنان العراقي محمد القبنجي
وقال محمود النجار: «إنها لفرصة نادرة أن أتعلم هذه المقامات... أنت قد أرسلك الله إلينا».
وكان دكان القبنجي في الصدرية من المحطات التي يتردد عليها مردان، حيث كان الاثنان يتناقشان حول أساليب وأصول معرفة المقام. يقول الأستاذ علي مردان: «أخذ القبنجي عني الكثير واستفاد مني كثيراً، فقد علمته المقام وكيفية أدائه حرفاً بحرف. للتأكد، تستطيعون الاستماع إلى الأسطوانة التي سجلها لأول مرة، استمعوا بدقة، فستجدون أنه يعيد نفس الكلمات التي لقنتها له وسمعها مني، وكنت أنا أستخدمها حين أدائي للمقامات».
ولإثبات ذلك، قام الأستاذ علي مردان بتحويل العديد من هذه الأسطوانات إلى كاسيتات واحتفظ بها.
في «المؤتمر الأول للموسيقى العربية» ... علي مردان يرفض الغناء بالعربية
في عام 1932، خلال انعقاد «المؤتمر الأول للموسيقى العربية» في القاهرة، كان الأستاذ علي مردان ومحمد القبنجي من ضمن الوفد العراقي المشارك في هذا المؤتمر. كان هذا مدعاة فخر واعتزاز لعلي مردان كفنان كوردي يشارك في هذا الحدث الكبير، ويؤدي المقامات والأغاني باللغة الكوردية. أراد علي مردان أن يُظهر هوية شعبه، حيث كان بعض المشاركين في المؤتمر لم يسمعوا حتى بكلمة «الكورد أصلاً».
لهذا، أراد مشرفو ومنظمو المؤتمر تهميشه وتقليص دوره ووجوده، حتى أن أخبار المؤتمر في الصحف لم تشر مطلقاً إلى مشاركة فنان كوردي. ومن هذا المنطلق حاول المنظمون إقناعه بالغناء باللغة العربية، محتجين بأن الحدث هو «مؤتمر للموسيقى العربية»، لكنه رفض ذلك بإصرار. ونتيجة لذلك، قام المنظمون بإلغاء عضويته في المؤتمر وإبعاده عن المشاركة.
على الرغم من هذه التحديات، تحمس علي مردان أكثر لكورديته واستغل فترة وجوده في القاهرة للقاء الفنانين والكتاب والشعراء ذوي الأصول الكوردية هناك، مثل الشاعر الأشهر أحمد شوقي والكاتب والناقد عباس محمود العقاد. أظهر هؤلاء الشخصيات من جانبهم السعادة والحفاوة بعلي مردان، وجددوا فخرهم بانتمائهم للأصول الكوردية، واستمعوا بانبهار إلى صوته الرنان وهو يؤدي الألحان والمقامات والأغاني الكوردية.
وأيضاً قاموا بترتيب لقاء للأستاذ علي مردان مع الفنان محمد عبد الوهاب. وخلال لقائه، غنى عبد الوهاب لأول مرة أغنية «الليل لما خلي» من كلمات أحمد شوقي. ومرة أخرى، أقام أمير الشعراء شوقي مأدبة عشاء فاخرة على شرف الأستاذ علي مردان بحضور محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، حيث تعرف فيها علي مردان على أم كلثوم.
لا شك أن الكتابة عن شخصية وموهبة الفنان القدير علي مردان تحتاج إلى المزيد من الاهتمام، لكن للأسف لم نوفه حقه حتى الآن. ولم تُجرَ دراسة نوعية مستفيضة تحليلية حول قدراته ومواهبه، أو على الأقل إضافته كجزء من المنهج الدراسي في معاهد وأكاديميات الفنون الجميلة في كوردستان.