على غرار الموسيقى الكوردية التي يهيمن عليها مقام البيات الجامع بين الشجن والفرح، يأتي الفصل الأول من رواية مها حسن الأخيرة «مقام الكورد» محمولاً على مقام الشوق والحب، كما العتب، مانحاً القارئ أحاسيس مختلطة من الانتظار واللهفة.
«يعيش الكورد بالموسيقى والحب»، هكذا تقول الرواية، بتعبير كاتبتها، التي أرادت منح روايتها بعض التفاعلية، فزرعت في ثناياها إشارات إلى أغاني كوردية توصي القارئ بها، بل تحثه على الاستماع إليها خلال القراءة، كما كانت الكاتبة نفسها تستمع إليها خلال كتابة الرواية. لكني، شخصياً، أرى أن الكتابة فعل مقدس في عزلة الصمت، أرى القراءة كذلك هي الأخرى فعلاً توحدياً لا يقاطعه نشاط آخر، ولو كان مقدساً هو أيضاً؛ مثل سماع الموسيقى.
متشظية هي الرواية، ومعقدة متراكبة كما هي طبقات هوية الفرد الكوردي. لكنك حين تسلم نفسك للرواية وتنفتح على الهوية الكوردية، تدخل عالماً بديعاً، أتقنت الكاتبة بناءه في الرواية، وثقافة مدهشة لا نكاد نحن العرب نعرف عنها شيئا.
تعرض الرواية لصراع الهويات الذي يعانيه الفرد الكوردي، بداية من سلسلة الأحلام الكابوسية التي وجدت ڤالنتينا نفسها داخلها كل ليلة؛ جو كافكاوي عن قرار بيروقراطي تفرضه فرنسا بشأن أوراق الإقامة بناء على اللغة الأم، وليس مدة الإقامة. وهكذا تجد ڤالنتينا، الفرنسية بالتجنس، نفسها أمام خطر الرمي في حفرة من لا هوية له لتعذر فرزها مع أي مجموعة محددة.
هي لا تعرف اللغة الكوردية؛ ولذلك يرفض الكورد انتسابها إليهم. والعرب يرفضون ضمها إلى الثقافة العربية، ولو أنها تتقن العربية، وأما الفرنسيون فينظرون دوما بعين الريبة إلى لكنتها وبتوجس إلى برودتها (حياديتها) تجاه ثقافتهم.
شخصيات الرواية متعددة وتتقاطع مصائرها، ويمكن النظر إلى بعضها على أنها أجزاء من فرد واحد، كل منها يمثل جانباً معيناً من الشخصية.
الحقيقة أن الكاتب، مهما حاول الهرب، سواء بوعي أو بدونه، سيترك جزءاً من نفسه على الورق. يمكنني القول إن مها حسن جزأت هويتها، ووزعت الأجزاء على شخصيات روايتها، الذين إذا جمعناهم معا نحصل على فرد متكامل هو الكاتبة نفسها. لذلك يمكنني القول إن دلشان وڤالنتينا، المولودتين في اليوم نفسه، واللتين ستحبان الرجل نفسه، هما وجهان، أو بالأحرى جزءان من شخصية واحدة متعددة المستويات.
تختار دلشان الموت احتفاء بالخيال وبالكتابة. كتبت مها حسن روايتها احتفاء بالكوردي، وربما اعتذاراً عن الهوية الكوردية التي اضطرت للتخلي عنها. كتبت دلشان في رسالة انتحارها: «سامحني، يا جوان، ربما أحببت الكتابة أكثر منك.. اغفر لي..».
أما ڤالنتينا فقد أجبرت على نسيان الكوردية عندما أخذها عمها، وهي في السابعة من عمرها، للعيش معه، من القرية في حلب إلى دمشق، بعد اعتقال والدها الناشط السياسي الكوردي، ثم انتحار والدتها بعد شهرين. العم، مدفوعاً بفكرة أنه لا يستطيع أن يكون بطلاً مثل أخيه، قبل بالانصهار في حزب البعث والثقافة العربية دفاعاً عن نفسه (ثم عن ابنة أخيه). الطفلة لم تكن تعرف شيئاً من العربية آنذاك وهي مقبلة على عالم جديد غريب تماماً، مخيف وموحش. ثم، بعد سنوات، ستجد نفسها في فرنسا، في عالم آخر غريب، وإن كانت تعرف لغة أهله، وحيدة متقوقعة على نفسها.
بين الفصلين، العمودين الحاملين لبناء الرواية، ننتقل إلى أربيل مع حكاية نالين المرسومة على مقام الكورد الذي «تقشعر له الأبدان في كل زمان ومكان». ونذهب في رحلة إلى عالم الأسلاف وبحوث نالين حول الموسيقى الكوردية وأطروحتها عن العلاقة بين الموسيقى والجينات، وكيف تؤثر الموسيقى على اللاشعور الجمعي.
الكورد، تقول الرواية، لديهم ذاكرة جمعية مرتبطة بالموسيقى. فصيلة دم موسيقية أو جين وراثي يربط الكورد. وقد جاءت الرواية على مقام الكورد، لتتواصل الكاتبة بها، ومن خلالها، مع أسلافها، ومع هويتها. في رسالة تجمع بين الاحتفاء بالهوية التي تشكل ماضي الكاتبة، والاعتذار عن اضطرارها مكرهة الابتعاد عن تلك الهوية، كما ڤالنتينا التي أخذها عمها مكرهة من قريتها الكوردية إلى العاصمة السورية حيث صارت العربية لغتها الوحيدة، ثم بعد ذلك إلى فرنسا حيث صارت الفرنسية لغتها اليومية.
أبدعت مها حسن، الكوردية، بالعربية رواية حزينة، مثيرة للشجن، تسلط الضوء على الكورد والهوية الكوردية المتشظية، فجاءت الرواية كما مقام الكورد: تقشعر لها الأبدان لما تثيره من شجن وعاطفة.
محمد سعيد أحجيوج
كاتب وروائي مغربي من مدينة طنجة... له روايات عديدة أهمها «أحجية إدموند عمران المالح»