يعود كهف «دودَري» لعصور ما قبل التاريخ، ويعد من أهم الكهوف المكتشفة في كوردستان سوريا والمنطقة، ومن أولى مراكز الاستيطان البشري منذ آلاف السنين، يقع عند سفح جبل ليلون في منطقة عفرين، والتنقيبات في الكهف كشفت حتى الآن بقايا 13 هيكلاً عظمياً لإنسان النياندرتال، وأقدم مبنى أثري بُنيَ داخل الكهف ومازال موجوداً، إضافة إلى اكتشاف الهيكل العظمي لطفل دودري الذي يعتبر الأكمل في العالم، وقدمت أقدم الدلائل على الدفن الشعائري الذي مارسه الإنسان، ومواقد للنار عدا المعطيات الحجرية والنباتية والحيوانية والتاريخية الأخرى.
يعد كهف «دودَري» واحداً من مجموعة الكهوف المنتشرة في عفرين والمنطقة، وتبلغ مساحته أكثر من 1800 متر مربع، بدأت التنقيبات المنهجية فيه عام 1989 من قبل البعثة الآثارية السورية - اليابانية المشتركة.
اسم الكهف «دودَري» جاء من اللغة الكوردية ويتألف من مقطعين (دو - du) أي اثنين و(دَري - deri) أي الباب بمعني «الكهف ذو البابين»، ويقع في منطقة عفرين - جياي كورمنج - قرب قرية برج عبدالو، ويبعد عن مدينة عفرين 15 كلم، ويرتفع عن سطح البحر 450 متراً، ويبلغ عمق الكهف المكتشف 60 متراً وعرضه 30 متراً.
قامت البعثة التنقيبية بتثبيت 15 طبقة أثرية مسكونة بالكهف وصولاً إلى التربة البكر، وتحتوي كل طبقة على أدوات ومعطيات أثرية مختلفة تدل على استيطان بشري منذ العصر الحجري القديم، (الباليوليت الأوسط) اعتماداً على المكونات الأثرية للطبقات من آثار الهياكل العظمية، والمعطيات النباتية من بذور الثمار والأدوات الصوانية، وبقايا مواقد النيران والمؤرخة بين 200 و400 ألف عام.
وبالتالي يعتبر كهف «دودَري» الموقع الأكثر أهمية وأعمق وأكبر كهف مكتشف من العصور الحجرية، وكان مركزاً لمستوطنة كبيرة تضم مجموعة من الكهوف المجاورة في وديان (وادي قرتل - وادي الحسينية - وادي الكور - وتل موسى).
وهو الموقع الأثري الوحيد في سوريا والمنطقة الذي عثر فيه على بقايا عظمية جنباً إلى جنب مع الأدوات وبقايا الطعام، وهو ما يدل على تاريخ طويل من الاستيطان.
للكهف أهمية تاريخية كبيرة فهو إضافة إلى معطياته الأثرية من الأدوات الصوانية (نواة - رؤوس الرماح - أحجار الأوبسيدون - النصال..)، ومعطياته النباتية والحيوانية مثل (بقايا بذور الجوز وعظام الغزلان والخنازير البرية والثيران والبقر والخيل والماعز والماشية والأيائل والثعالب..). عثر فيه على آثار رماد مواقد نار تعود لعصر النياندرتال في الطبقة الـ11 وهي مواقد دائرية الشكل بعرض نحو 40 سم، وقدمت 13 هيكلاً عظمياً، وأجزاءً من هياكل عظمية أخرى لإنسان النياندرتال كعظم العضد لطفل عمره حوالي خمسة أشهر وأسنان وعظم كتف وسلاميات وعظم الرسغ.
منظر داخل كهف دودري
وعُثر في الكهف أيضاً على هيكل عظمي كامل لطفل عمره نحو سنتين أطلق عليه اسم «طفل دودري عفرين» مؤرخ بنحو 80 ألف سنة تبين أنه دفن عمداً من قبل أشخاص آخرين على ظهره ويداه ممدودتان وقدماه مثنيتان، ووضعت تحت رأسه بلاطة حجرية. وعثر فوق صدره من جهة القلب على أداة صوانية تحمل مؤشرات الدفن الشعائري. ونلاحظ من طريقة الدفن في الكهف إشارات ربما تحمل دلالات رمزية هادفة كتسوير الهيكل بأحجار على شكل أهليجي ودفنه على شكل وضعية الجنين في رحم الأم، أي إعادة الإنسان إلى الأصل، وهو ما يطرح أسئلة عن وجود أفكار تحمل طابعاً ودلالة غيبية واعتقادات روحية. كما يدفعنا إلى طرح سؤال عن ماهية ومستوى المعارف التي كان يمتلكها الإنسان، والأهم من ذلك قدرة النياندرتال على التواصل ونقل المعارف أو القدرة على الكلام، وإن كنا غير متأكدين إن كان قادراً على تركيب الجمل المعقدة كما يقول فريق البحث من جامعة نيو إنغلاند الأسترالية مع تأكيدهم على وجود عظم اللامي عند إنسان النياندرتال كما لدى الإنسان الحديث، والذي يلعب دوراً مهماً في إمكانية الكلام. يقول الباحث سلطان محيسن الذي شارك في التنقيبات «إن عملية الدفن هذه تدل على حس تأملي وبدايات تفكير فلسفي وديني لدى إنسان النياندرتال». وبذلك يقدم كهف «دودَري» الدلائل على أقدم ما عرف في العالم من طقوس الدفن الشعائري.
شكل تخييلي لطفل نياندرتالي وجدت عظامه في كهف دودري
وأثبتت الفحوصات التي جرت على عظام طفل «دودَري» أنها كانت في طور النمو، واستطاع مايكل إندرسون وأريك ماكسول من متحف «نيومكسيكو للتاريخ الطبيعي» إعادة مجسم الطفل المكتشف بتقنيات الحاسوب، حيث ظهر إنه طفل بعمر سنتين وبطول 80 سم، ويعتبر الهيكل الأكمل والأفضل الذي ظهر حتى الآن. وطريقة الدفن تؤكد أن إنسان النياندرتال امتلك وعياً وفلسفة حياتية وجانباً روحياً غنياً، ومارس الطقوس والشعائر لدفن موتاهم، وهو أول من دفن موتاه ولم يتركهم للفرائس والوحوش، ويشير ذلك إلى معاني سامية وإحساس عالي بمكانة وقدسية الإنسان حتى بعد موته وضرورة تكريمه، ونثر الزهور على الميت أو زرعها على قبره كما ظهر في مدفن المرأة (زيد) من كهف شاندر المؤرخة على 75 ألف سنة في هَولير بحسب بحث للدكتورة إيما بوميروي من جامعة كامبريدج، وكل ذلك يلغي ويبعد عن إنسان النياندرتال صفة التوحش، ويبرئه من كل التهم التي الصقت به.
كما كشف في كهف «دودَري» هيكل ثان في عام 1997، يسمى طفل «دودَري» الثاني، ووجدت معه كميات من الأدوات الصوانية وعظم سلحفاة، وقدمت التنقيبات التي جرت في مدخل الكهف دلائل وجود مبنى سكني، وبذلك نكون أمام حالة نادرة ومهمة لنمط العمارة السكنية داخل الكهوف مما يجعلها أقدم المباني الآثرية التي مازالت موجودة في سوريا، والمرة الأولى التي تكتشف فيها آثار المباني من الفترة النطوفية التي بنيت على شكل أنصاف دوائر مفتوحة باتجاه مدخل الكهف حيث أكد الدكتور يوسف كنجو رئيس شعبة التنقيب في متحف حلب «أنه تم اكتشاف أقدم مبنى أثري لا يزال موجوداً في سوريا».
الهيكل العظمي للطفل النياندرتالي الذي وجدت عظامه في كهف دودري
ولكل ذلك يعتبر كهف «دودَري» من أهم الكهوف العالمية التي شهدت استمراراً لسكن الإنسان، ومهداً لإنسان النياندرتال الذي يسجل له أنه أول من أمتلك التقنية واستخدم التكنيك في صنع الأدوات الصوانية الدقيقة جداً، والتي تعتبر لحظة فارقة وفاصلة بين الإنسان والحيوان وتأكيداً لإنسانية النياندرتال عندما استخدم عقله وصنع (المعاول – الفؤوس - السكاكين - النصال المشذبة - الرماح والمقاحف من ضلوع وأسنان الحيوانات) لقحط الجلود وتحويلها إلى ملابس وأغطية بحسب بحث لقسم أنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا منشور في مجلة «ساينتفك ريبوتس»، والباحثة ماري سوريس من جامعة ليدن بهولندا. عدا أن إنسان النياندرتال كان منتصب القامة ويمشي على طرفيه، ويمتلك مخاً أكبر بكثير من أذكى الحيوانات، الشمبانزي، يقول الباحث ماثياس كورات من جامعة جنيف «إن جينات النياندرتال انتقل للإنسان الحالي بنسبة 2%، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 4% في إنسان شرق آسيا، وإن إنسان النياندرتال عاصر وتعايش واختلط مع الإنسان الحالي لآلاف السنين».
ومع عدم وجود دلائل قاطعة وكافية على حتمية انقراض النياندرتال، وعدم وجود إبادة جماعية موثقة، ومع مشاركة النياندرتال نفس جغرافية إنسان الحديث وانتقال جيناته إلى الإنسان الحالي نصل إلى الفرضية الأكثر قبولاً بعدم انقراض إنسان النياندرتال نهائياً بل تزاوجه وانصهاره في بوتقة الإنسان الحديث واستمراره من خلاله، وأنه كان مثلنا وقريباً جداً من بعض المجتمعات البدائية التي مازالت موجودة بيننا حتى الآن في بعض المناطق من العالم، وأن هؤلاء الناس هم أجدادنا الأوائل ونحن أحفادهم.
زكريا عبد الهادي حصري
عضو بعثة تنقيب الآثار السورية اليابانية – المشتركة وله عدة مؤلفات وأبحاث