تتوزع في إقليم كوردستان مخيمات عديدة للاجئين يسكنها عشرات الآلاف ممن اضطرتهم ظروف الحرب في سوريا والعراق وحتى إيران إلى ترك بيوتهم والبحث عن أماكن أكثر استقراراً يواصلون فيها رحلة الحياة. ومن هذه المخيمات العديدة مخيم كورَكوسك التابع لناحية خبات ويقع على بعد حوالي عشرين كيلومتراً غربي أربيل.
لم يسبق لي أن زرت هذا المخيم. لكنني زرت ثلاث مخيمات أخرى واطلعت عن كثب على حياة اللاجئين الذين يأمل بعضهم في الوصول إلى أوروبا «حيث الحياة الرغيدة» وحيث «السلام والأمن وضمان الحياة الكريمة» كما قال لي من التقيت بهم هناك.
مدخل مكتبة "جنة القراء" في مخيم كوركوسك
الطريق إلى المخيم
انطلقنا من أربيل بحدود السابعة مساء. بدت الشمس وكأنها تهرب من أمام السيارة لتختفي وراء الهضاب الغربية. السماء صافية ودرجة الحرارة معتدلة.
سنصل بعد ربع ساعة... يقول صديقي آلان الذي يقود السيارة، والذي تعرفت إليه خلال حفل عيد ميلاد أحد زملائنا. أخبرني أن هناك مجموعة شباب في المخيم يهتمون بالكتب والأدب. شدني الموضوع وقلت في نفسي: عليّ أن أجتمع بهذه المجموعة التي ما زالت تتمسك برغم واقعها الأليم بخيط النجاة المتمثل بالثقافة والأدب. طرحت فكرة أن أزور المخيم فرحب الصديق آلان بها واتفقنا على الموعد.
الطريق معبدة بشكل جيد. لم يعكر صفونا في الطريق سوى بعض السائقين المتهورين الذين لا يلتزمون بقواعد السلامة. تعلو السيارة وتهبط. أفكر بشكل اللقاء مع هؤلاء الشباب الذين لم تمنعهم ظروف اللجوء ومرارة الغربة من أن يبقوا ملتزمين بالثقافة. تمضي دقائق أخرى ثم يلوح المخيم.
ها قد وصلنا.
يقول صديقي ثم يضيف: «هناك إجراءات أمنية عند بوابة المخيم. أرجو ألا تنزعج من ذلك». فأرد عليه:
ولماذا أنزعج؟ بالتأكيد هذه الإجراءات للحفاظ على أمن المخيم وأهله.
نترجل من السيارة. يفحص مسؤول الأمن بطاقاتنا الشخصية ويأذن لنا بالدخول.
إلى المكتبة
كانت الشمس قد غربت تماماً حين دخلنا أرض المخيم. بدأت العتمة تهبط على المكان. وعلى الفور لاحظت صخب الحياة. سيارات تذهب وتجيء ومحلات تجارية على جانبي الطريق. أطفال يلعبون، مجموعات صغيرة من سكان المخيم إما مجتمعين أمام محل تجاري أو يمشون على أحد الأرصفة. الأضواء تزين المخيم وتضفي رومانسية معينة على المكان. تلتقي عيناي بلوحة على جانب أحد الطرق. أدقق فيها. لوحة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تفيد بأن إنارة الشوارع في المخيم من عمل الصندوق الكويتي للتنمية.
تتجشم حكومة إقليم كوردستان عناء إيواء هذا العدد الهائل من اللاجئين بالرغم من الصعوبات التي مرت بها كوردستان منذ بدء تدفق اللاجئين وخاصة من سوريا مروراً بالحرب على داعش ثم وباء كورونا إلى غير ذلك.
كثير من اللاجئين يعتبرون هذه المخيمات محطات مؤقتة للانتقال إلى أوروبا. لكن كثيرين آخرين تأقلموا مع الوضع وبدأوا يزاولون نشاطات مهمة وكأنهم لا يفكرون بالمغادرة أبداً.
ومن هؤلاء الذين يتعاملون بواقعية مع محنة اللجوء، الشاب الكوردي رائد محمد من القامشلي الذي أنشأ مكتبة جنة القراءة وملأها بالكتب. «في مكتبتي أكثر من ألفي كتاب». يقول باعتزاز وهو يجلس خلف طاولة في المكتبة الواقعة في سوق المخيم.
ولماذا جنة القراءة؟ ما هي قصة الاسم؟ سألته، فأجابني: «في الحقيقة نحن اللاجئون نعيش بعيدين عن بلادنا. وهذه الغربة بمثابة جحيم نعيشه. نعاني هموماً كثيرة ونقاسي آلام الفقد. لذلك أردت أن أنشئ لمحبي القراءة جنة صغيرة وسط هذا الجحيم».
بعد وصولنا بدقائق تمتلئ المكتبة بالرواد. لاجئون مثقفون يحزنهم البعد عن مدنهم وقراهم. يقتاتون على الذكريات ويقاومون وحشة الغربة بالقراءة. يتحدثون عن أحلامهم وطموحاتهم. «هذا خريج أدب فارسي من جامعة صلاح الدين»، يشير صاحب المكتبة إلى شاب جالس على كرسي صغير. «وهذا كان يدرس الطب البيطري في سوريا». يشير إلى آخر. «وهذا صاحب موقع إنترنيتي ثقافي». وهذا وهذا. مجموعة من المثقفين يجتمعون في المكتبة يرحبون بزيارتي. أقدم لهم الكتب التي أخذتها معي كهدية. يصحبنا صاحب المكتبة إلى بيته لنواصل حوارنا. نذهب مشياً على الأقدام. السوق صاخبة مليئة بالحيوية. الأضواء في كل مكان.
تحمل حكومة إقليم كوردستان عبء اللاجئين الثقيل على كاهلها. تقدم لهم تسهيلات للعمل والإقامة والدراسة. لكنها لا تستطيع تعويضهم عن دفء أعشاشهم التي أحرقتها الحرب الشرسة. يتحدثون عن أيامهم الماضية وعيونهم تلمع بالحنين.
«كنت دائم التفكير بإنشاء مكتبة. بدأ ذلك حين كنت طالباً في جامعة تشرين بسوريا بين عامي 2005 و2010. كنت مولعاً بالمطالعة واعتدنا أن نستعير الكتب بسبب أسعارها المرتفعة. حينذاك حلمت بأنني أنشئ مكتبة فيها كتب كوردية كثيرة بمدينتي يرتادها عشاق الكتب ويستعيرونها مجاناً». يسهب رائد في الحديث عن بداية حلمه الذي لم يتحقق إلا على أرض مخيم اللاجئين بدل مدينته التي تركها مرغماً.
ويوضح رائد ظروف إنشاء المكتبة فيقول إن فناناً يعيش في ألمانيا ساعده في تحقيق حلمٍ راوده أكثر من عشرة أعوام.
«اشتريت هذا المحل من جيبي الخاص». يقول صاحب جنة القراء. «ومن أين جاءتك هذه الكتب؟» أسأله فيجيب: «هي بعض الكتب التي أتيت بها من القامشلي. وبعضها جمعتها أثناء وجودي في زاخو ودهوك. واشتريت قسماً منها من معارض الكتب التي تقام في أربيل كل عام. لقد بلغ عدد الكتب حوالي 2600 عنوان. وهناك كتاب ومثقفون يهدون كتبهم إلى المكتبة باستمرار».
لا يكتفي رائد بالجلوس وانتظار المهتمين من القراء في المكتبة التي تضم كتباً بالعربية والإنكليزية والكوردية بلهجتيها. بل يقوم مع أصدقائه بنشاطات ثقافية واجتماعية عديدة.
«المكتبة صارت مكاناً لاجتماعاتنا حيث نقوم بتقييمات لكتب وروايات يقرأها أعضاء المكتبة. كما يأتينا الطلاب فنهديهم القرطاسية اللازمة لدراستهم مجاناً. وقد أنشأت صفحة لنقل أخبار المخيم اسمها: كوركوسك - صورة وحكاية. بالإضافة إلى ذلك نقوم بتوعية سكان المخيم للحفاظ على البيئة وزراعة الأشجار. من جهة أخرى، نقدم الدعم المادي للمرضى الذين يحتاجون إلى إجراء العمليات الجراحية. ويجب أن أذكر في هذا المجال الفنان زهير درويش من ألمانيا».
إنها قصة طموح من بين آلاف القصص. قصة ينبغي الالتفات إليها ودعم من يقوم بها لترويج الثقافة في زمن صار فيه البحث عن لقمة العيش هم مئات الألوف. إنهم فتية يؤمنون بقوة الكلمة ودورها في تجميل المجتمعات وإضافة ألوان زاهية إلى مجموعة ألوان الطيف المجتمعي. إنها قصة تؤكد أن هناك خيطاً من الضوء قد يقودنا ذات عتمة إلى جنة واسعة. جنة من ورق وكلمات.