تعرفت إلى الفنان إبراهيم كيفو، المولود عام 1965 في قرية إيزيدية كوردية بالمنطقة الكوردية شمال شرقي سوريا، قبل حوالي ثلاثين عاماً. أعتقد كان ذلك عام 1993 في مدينة الحسكة ولم يكن وقتذاك قد اشتهر إلا في نطاق محلي ضيق. كنت على وشك أن أعمل حواراً مع الموسيقار الشهير نوري إسكندر لصالح جريدة «ولات» WELAT التي كانت تصدر باللغة الكوردية في إسطنبول وكنت مراسلاً لها. ثم افترقنا. هاجرت إلى أوروبا وبقي هو في البلاد من دون أن يسمع أحدنا عن الآخر شيئاً حتى هاجر هو أيضاً إلى أوروبا وبدأت شهرته مع الحفلات الغنائية وخاصة خلال مهرجانات «مورغنلاند» Morgenland الموسيقية الشهيرة. ونظراً لأنه يشكل مع فنانين أرمن آخرين ظاهرة فريدة وهي الغناء بالكوردية فقد أجريت معه حواراً مطولاً وطرحت عليه أسئلة كثيرة أجابني عليها بصبر ودقة.
الجذور الأولى
بدأت من الظاهرة الفنية القديمة: فنانون كبار من القومية الأرمنية يغنون بالكوردية ويثرون الفن الغنائي الكوردي منذ أكثر من قرن على الأقل. وبطبيعة الحال فإن التعايش بين الكورد والأرمن أنتج هذه الظاهرة الجميلة من تداخل الثقافات المتجاورة. وإبراهيم كيفو، القادم من المنطقة الكوردية في شمال شرقي سوريا دليل على هذا التمازج الموسيقي البديع بين شعبين متجاورين تربطهما أكثر من علاقة على مستوى التاريخ والجغرافيا والمجتمعات. سألته بداية عن سبب غنائه بالكوردية، فأجاب: «الكوردية لغتنا منذ أيام جدي الذي فرَّ من مدينة وان وهو طفل خوفاً من القتل ولجأ إلى الكورد الإيزيديين أيام المجازر الأرمنية عام 1914. كان جدي في الثامنة لكنه لم ينس لغته الأرمنية وكان يتكلمها بطلاقة. أما ثقافته وعاداته وتقاليده فقد صارت كوردية إيزيدية».
يؤكد الفنان أن للإيزيديين الفضل في بقاء الطفل محافظاً على دينه ولغته إلى أن تزوج بأرمنية مثله ناجية من المجازر. «جدي لم ينجب أطفالاً إلا بعد أن رحل إلى قرية دوكر التي بناها الإيزيديون قريباً من عامودا في المنطقة الكوردية في شمال سوريا فأنجب بنتاً وولداً هو أبي»، ويحدثنا الموسيقي الأرمني عن نشوء عائلته من بقايا المجزرة الرهيبة إبان الحرب العالمية الثانية.
«أنا نشأت في هذه العائلة الأرمنية المتشربة بالثقافة والعادات الكوردية الإيزيدية الأصيلة النقية» يضيف إبراهيم كيفو صاحب الأوسمة العديدة في مجال الغناء.
الكوردية لغة البيت والغناء
«كنا نتحدث الكوردية. أنا وأبي وعمتي وإخوتي. كان جدي يعلمنا الأرمنية أحياناً. كانت أمي من أرمن ماردين وكانت أيضاً متشربة بالثقافة الكوردية. لقد كانت اللغة الكوردية لغة التخاطب في عائلتنا. وأنا عندما كنت أغني بالكوردية، كنت أشعر أنني أغني بلغتي وأرتاح لها كثيراً. أراها جزءاً من حياتي». يواصل إبراهيم كيفو شرح سبب الغناء بالكوردية، ويضيف: «نحن أبناء منطقة كبيرة هي ميزوبوتاميا التي تضم أطيافاً واسعة من الشعوب والملل والأديان. وفي كل حفلة غنائية وأينما كنت أعرِّف نفسي مغنياً منتمياً إلى ميزوبوتاميا ولكن اللون الكوردي طاغٍ إلى درجة كبيرة على ما أقدمه من فن. والآلات التي أستخدمها ذات صلة وثيقة بالكورد كالبزق والطنبور والساز والباغلمة».
إبراهيم كيفو يعزف على آلته
يستمر الفنان كيفو، الحائز على جوائز كثيرة منها جائزة أورنينا الذهبية في مهرجان الأغنية السورية الخامس في حلب 1998، وجائزة «شارل كروس» الفرنسية عام 2010، في الحديث ويقول إنه لمس رحابة وعنىً في اللغة الكوردية. «القاموس الكوردي يشتمل على كلمات كثيرة تعبر عن جميع المشاعر فضلاً عن الغنى في اللهجات».
مهرجان الصيف في إقليم كوردستان
في عام 2013 إقليم كوردستان زار إبراهيم كيفو لإحياء مهرجان موسيقي ضخم. وحكى لنا عن كواليس تنظيم هذا المهرجان والصعوبات التي لقيها هو وزميله الموسيقي غني ميرزو، وقدم بعض التفاصيل قائلاً:
ذهبت إلى كوردستان لإحياء مهرجان موسيقي نظمته «مورغنلاند» Morgenland. قبل ذلك بعام أحيينا مهرجان الفن الكوردي في أوسنابروك. ثم تواصلنا مع مدير المهرجان ميشيل دراير Michael Dreyer الذي كنت أعرفه منذ أن زارني في الحسكة مع أحد المخرجين لتصوير فيلم وثائقي عني، وحاولنا بشتى الوسائل أن نقنعه بعمل نسخة من المهرجان في كوردستان فوعدنا خيراً. كما تواصلنا مع الجهات المختصة في كوردستان ولقينا أيضاً صعوبات في الإقناع إلى أن سارت الأمور كما نشتهي واتفقنا على إحياء مهرجان الموسيقى الكوردية في أربيل. وهكذا شارك حوالي مئة من الموسيقيين في ذلك المهرجان الذي أطلق عليه اسم مهرجان الصيف. افتتح المهرجان افتتاحاً مهيباً في قاعة الشهيد سعد عبد الله حضره أكثر من ألفي شخص من ضمنهم مجموعة كبيرة من ممثلي البعثات الدبلوماسية للدول العربي والأجنبية. بدأنا مع فرقة غني ميرزو وعازفين عالميين مثل عازف الكلارينيت الشهير كنان العظمة من سوريا وروني البراك من لبنان. وكان معنا كورال ألماني كبير تابع لكنيسة أوسنابروك».
أسأله: وهل زرتم كوردستان بعد ذلك مرة أخرى؟ يجيب: نعم. ففي العام الماضي 2023 مثلاً شاركنا في نشاط موسيقي دعماً لضحايا مجزرة حلبجة في عام 1988 وكذلك ضحايا مأساة منطقة سنجار الإيزيدية عام 2014 ونظمه معهد غوته في أربيل بمشاركة فعالة من فرقة ميرزو ميوزيك وموسيقيين ألمان».
أثر الفراشة: دور الموسيقى في تعزيز فرص العيش المشترك
في عالم تسوده الحروب وتعصف به الأزمات يبحث الإنسان عن قوة ناعمة، عن قشة يتعلق بها للنجاة من الطوفان. والموسيقى (بجانب الفنون الأخرى كالرسم والأدب والرياضة) تقدم فرصة لنشر ثقافة التسامح بين الشعوب وبناء الجسور أو ترميم ما تهدم منها. أحببت أن أعرف رأي هذا الموسيقي المتعدد الثقافات في هذا الموضوع، فسألته عن الدور الذي يمكن أن يفعله الفن في تعزيز فرص العيش المشترك بين الشعوب وتخفيف خطاب الكراهية. أجابني إبراهيم كيفو الذي قُدِّم إليه هذا العام درع التميز لدوره في نشر ثقافة المحبة والتسامح: «أقول دائماً إن صوت الموسيقى أعلى من صوت السلاح. فالموسيقى لغة العالم وتتيح للقلوب أن تتخاطب. أحياناً أرى بعض المشاهدين في حفلاتي يبكون متأثرين من دون أن يفهموا كلمات الأغاني التي أقدمها. لأن الموسيقى لغة لا تحتاج إلى جهد ليفهمها المرء. إنها لغة المشاعر والأحاسيس وتستطيع جمع الناس في إطار مشترك جميل. فمثلاً أغني في بعض الأحيان مقطعاً إيقاعياً راقصاً فيأتي مجموعة من الكورد والأرمن ويتشابكون بالأيدي ويرقصون. وبشكل عفوي يندفع إلى حلقة الرقص آخرون ممن لا يعرفون أصول الرقصة ولا يفهمون كلمات الأغاني. وهكذا يجتمع الألمان والأمريكيون والبلجيكيون مع غيرهم في حلقة رقص واسعة. وهذا ما يمكن أن تفعله الموسيقى».
ثم يضيف كيفو بنبرة حماسية أكاد أسمع من خلالها نبض قلبه: «عندي تجربة خاصة في هذا المجال حدثت على المسرح. كان ذلك حين قدمت مع آينور أغنية (کَچا کوردا) Keça Kurda. أنا أرمني، وآينور كوردية والمايسترو كان تركياً من أزمير اسمه ناجي. أما أعضاء الأوركسترا فقد كانوا من مختلف الدول، أمريكا، أرمينيا، أذربيجان، سوريا. هل هناك أفضل من هذا الأمر لجمع الشعوب؟».
يستمر في الكلام بنفس النبرة الحماسية: «كان الجمهور في غاية السعادة بما قدمناه. وكانت تلك صورة حضارية بهية تعكس التعايش في منطقتنا. في نهاية العرض وقف الجمهور أكثر من خمس دقائق وصفقوا لنا. حين انتهت الأغنية جاء المايسترو ووعانقني. فقلت له هامساً: هل رأيت ماذا تفعل الموسيقى يا ناجي؟».
«وهل تغني بلغات غير الكوردية والعربية؟» أسأل الفنان والحوار يوشك أن ينتهي. فيجيبني: «بالطبع نعم. فأنا لا أغني فقط بالكوردية. بل أغني باللغات الميزوبوتامية كلها تقريباً؛ الأرمنية، والآشورية، والعربية والسريانية. الموسيقى عامل تقارب كبير. وهي لغة الأحاسيس كما قلت. والموسيقى الجميلة تفرض عليك أن تسمعها حتى لو كانت موسيقى أعدائك».
جميلة هذه القفلة. نعم الموسيقى الجميلة تفرض عليك الإصغاء حتى لو كانت موسيقى العدو. بل أضيف أن الموسيقى وغيرها من الفنون قادرة على تخفيف درجة العداوة وما أحوجنا إلى ذلك في عصر يشهد عداوات غير مبررة.
جان دوست
شاعر وروائي ومترجم كوردي، صدر له العديد من الكتب والروايات وترجم العديد من الروائع الكوردية إلى العربية