بين ثلاث مدن عراقية نشأت ملاك جميل بابان، الفنانة التشكيلية ومصممة الأزياء ومُعدة البرامج التلفزيونية إضافة الى كونها سيدة أعمال، ولدت وعاشت السنوات الخمس الأولى من عمرها في بغداد / الأعظمية. كان والدها مدرساً ويهوى الرسم ووالدتها معلمة، وشاءت ظروف الحياة انتقال العائلة إلى مدينة المسيب للسكن والعيش فيها، فدرست مراحل الدراسة (الابتدائية، المتوسطة والإعدادية) في مدارس المسيب وكانت منذ المرحلة الدراسية الأولى متميزة في مجال الرسم، وكانت في المرحلة الثانية تهوى التمثيل، فمثلت مسرحيات مدرسية وأجادت إلقاء الخطابة والشعر...
كانت والدة ملاك تأخذها إلى بابل حيث الآثار، فعشقت بوابة عشتار وتمعنت في البحث بعد أن كبرت في آثار وفنون سومر وأكد وآشور، وعشقت ملوك وملكات تلك الحضارات، وراحت ترسم أكثر وتكون النقوش والزخارف حلمها في كل لوحة...
وبعد مرحلة الإعدادية دخلت كلية الإدارة فحصلت على بكالوريوس عام 1977 لتعود العائلة إلى بغداد عندما أصبحت في الجامعة.
«كوردستان بالعربي» كانت لها وقفات مع ملاك جميل التي أسست جمعية كهرمانة للفنون في بغداد عام 1991، كما أسست جمعية (kahramana pour arts) في باريس 2015.
شغلت ملاك مناصب مهمة في وزارة الثقافة العراقية ورأست عدة لجان للفنون، وشاركت في العشرات من المعارض الدولية والإقليمية والمحلية وحصلت على المئات من الجوائز والشهادات الدولية والمحلية.
ولم يتوقف شغف ملاك باللون واللوحات، بل تخطتها لتتخصص في تصميم الأزياء واختيار اللون المناسب الذي شغل متابعيها أينما حلت بمعارضها الخاصة بالأزياء والتي تعكس أيضاً أصولها الكوردية المحبة للحياة والتغيير الذي يحاكي اللون الزاهي كما تقول.
ملاك جميل أضافت، أنها أقامت عدة عروض للأزياء داخل وخارج العراق، وصممت الأزياء الخاصة للبرامج التلفزيونية والمسلسلات التاريخية، كما ترأست الكثير من الوفود الفنية العراقية إلى الخارج، وأهمها الوفد الذي سافر إلى باريس عام 2000 لإقامة معرض في معهد العالم العربي، الخاص بالفن العراقي المعاصر.
ومن جانبه، قال عنها الفنان المعروف جنيل حمودي أن «لوحاتها تمثل خطوة جيدة إلى الإمام، وهذه الفنانة ظلت تستفيد من تجارب وخبرات الفنانين العراقيين الكبار لتصل الآن إلى درجة متميزة من النضوج، مما أغنى تجربتها الإبداعية وجعلتها تعنى بعناصر التراث حيث تصبح الشناشيل والأطواق الإسلامية والبغدادية من الأمور التي تمنح أعمالها التطور والخصوصية».
فيما قال عنها الفنان فاروق يوسف إنها «لذة في ابتكار نموذج خطي يقابل المشهد المحيطي الصامت، وهي نموذج يغلب عليه طابعا الاختزال والإفاضة في الوقت نفسه؛ الاختزال يعبر عن الاكتفاء بالخط الخارجي لمكونات المشهد من غير الاعتناء بتفاصيله، والإفاضة التي يجسدها التكرار الأفقي لمفردات بيئية بعينها، وهي مفردات تنفي صلة النموذج بالأصل الواقعي على الرغم من أنها مستلة من هذا الأصل في لحظة من لحظات تحوله واكتماله».
أما الفنان والطبيب المعروف علاء بشير فقد قال عنها «تذكرني مدن وبيوت الفنانة ملاك جميل ببيوت ومدن صديقي الفنان الكبير الراحل حافظ الدروبي، والذي جعلها خلفية لنشاطات الناس اليومية، إلا أن مدن وبيوت الفنانة ملاك متمردة، فليس هناك نشاط لإنسان معين بالمدن والبيوت الخالية من البشر، فهي تزخر بالعوالم الداخلية للإنسان والتي عبرت عنها الفنانة بطريقة تكوين وبناء لوحاتها المعروضة، وكذلك ألوانها المستعملة. وعملية استبعاد الإنسان هنا، لا أعتقد أنها جاءت نتيجة دعوى اللاتشخيصية، إنما هي نتيجة وعي عميق لدور الإنسان في الحياة. وربما يكون عدم الرضا الناتج عن الشعور بالخذلان من دور الإنسان المعاصر وما يعتريه من تشوه بالقيم والمبادئ وما أصاب إنسانيته من تآكل هو الذي دفع الفنانة لاستبعاده عن مدنها وبيوتها. لكنها في الوقت نفسه مجدت دور الإنسان الإيجابي في بناء الحضارة على مدى العصور وقد ظهر هذا واضحاً من تمحور بيوت مدنها حول الجوامع إشارة إلى دور القيم والمبادئ السامية في مساعدة الإنسان في بناء حضارته وإنسانيته. إن أعمال الفنانة تفيض بصدق المشاعر وقد نفذت بمهارة عالية مكنتها من الانتماء إلى الحركة التشكيلية بجدارة».
ملاك التي تعود بطفولتها معنا تقول «كانت أمي التي رحلت عن دنيانا يرحمها الله تأخذنا إلى بابل حيث الآثار، كنت أحدق بعينين بريئتين، لكن بعقل تجاوز الطفولة، أدقق في التفاصيل، وأتخيل الناس الذين كانوا يعيشون بين جدران مدينة بابل».
أضافت ملاك: «كنت أرسم في مرحلة الابتدائية ما أشاهده، فأسمع من والدتي المديح والتشجيع فأشعر بالفرح والرغبة في الطيران».
وعن علاقتها باللوحة واللون تقول «إنني أتألم مع اللون والخط، أشارك هموم شخوص لوحاتي، كما أعيش أفراحهم وعندما أنتهي من اللوحة أصرخ بألم الفرح، وهو بعكس ألم الحزن، وعندما أكون في ألم الإبداع، أشعر كأنني في عالم غريب أحلق فيه ولا أود النزول من فضاء الإبداع التشكيلي».
وعن تأثير المكان والزمان في فن ملاك تقول «لم يكن تأثير المكان في لوحتي تأثيراً شكلياً، بل كان فيه تأثير خصوصي ممتلئ بأسرار حيويات الناس، لكن تلك الأسرار مخفية خلف ملامح الشخصية أو مجموعة شخصيات ضمن اللوحة، الزمان مفتوح إلى الماضي والحاضر، إلى الليل والنهار، إلى فصول السنة، إلى الفجر والغروب».
وكما يبدو فإن ملاك عرفت مدارس الفن التشكيلي، وتعاليم الرسم ومفردات إنجاز اللوحة من خلال موهبتها أولاً والإصرار على إثبات وجودها ثانياً، والقراءة الخامة بالفن ومتابعة المتاحف العالمية والمعارض الشخصية ثالثاً.
دخلت الفنانة ملاك جميل دورات فنية في أوروبا وأمريكا، ودرست في معاهد فعرفت بدقة أسرار اللون، ومكانه الدقيق في كل جزء من اللوحة، عرفت المزج اللوني والخروج بلون خاص بعيداً عن اللون الصناعي، وأكدت أن اللون هو الذي يعطي حقيقة الإبداع.
وتختصر ملاك جميل رحلتها بإجابات عن أسئلة تدور في ذهن أي شخص يلتقيها، فتقول «الفن بالنسبة لي رئة ثالثة في جسمي والفريم الخاص باللوحة والألوان والفرشاة هم الأصدقاء، أتحاور معهم في قصص الحياة، منذ طفولتي في الرحلات المدرسية، كنت أقف أمام بوابة عشتار التي تشدني ألوانها وتصاميمها ومفرداتها، وبخاصة زهرة البابونج والرسومات على الجدران والأعمال النحتية، وعند العودة إلى البيت أجلس وأرسم. في أكثر معارضي الخاصة ومشاركاتي الجماعية أركز على المرأة ودورها في الحياة وأستلهم دورها الذي كان في حضارات وادي الرافدين واستوحي مضموني من الأساطير القديمة، السومرية والأكدية والآشورية والبابلية».
وتضيف ملاك أنه «كان لي معرض خاص بعنوان (نساء حضارات وادي الرافدين)، سلطت الضوء فيه على أكثر النساء اللاتي حكمن العراق مثل شبعاد وسميراميس، كانت المرأة العراقية عبر العصور ملكة، سفيرة، أديبة، فنانة وناجحة في القانون والطب والهندسة وغيرها من المجالات. لقد حكم العراق الكثير من الملكات، وكان لكل واحدة أثر معين في تاريخ بابل وسكانها، ومن أبرز الملكات البابليات سميراميس التي كان لها الكثير من الإنجازات، حيث اشتهرت بجمالها وحكمتها وجبروتها وقسوتها وقوتها».
وعن رحلاتها إلى بلدان العالم ومنها فرنسا تقول «سفري إلى فرنسا كان له تأثير كبير على مسيرتي الفنية، التقيت بفنانين عالميين وشاركت في مهرجانات دولية، وأصبحت عضواً في دار الفنانين الفرنسيين، وعضواً في كل من اللجنة الدولية للفنون (إياب) واللجنة الدولية للثقافة والفنون لمنظمة زيرفاس وهي تابعة لليونسكو، وانضممت إلى منظمة أزيز للثقافة والفنون في باريس، إضافة الى عضويتي في معهد العالم العربي وعملت في شركات فرنسية مختصة بالفنون».
وحول أبرز المعارض الخاصة بالفنانة ملاك جميل داخل العراق وخارجه قالت إن أول معرض لها كان عام 1991، وباقي المعارض ومعرض اليونيسكو الذي أقيم في باريس كان عام 2000.. وعدة معارض أخرى منها معرض إذاعة مونت كارلو ومعرض في المركز الثقافي الملكي في عمان، كما حصلت على عدة جوائز، منها الجائزة الأولى في الصين عام 2000، وجائزة باتراس من اليونان، وأكثر من 50 شهادة تقديرية».
هدى جاسم
صحفية عراقية