حين أفتى محسن الحكيم بتحريم محاربة الكورد
حين أفتى محسن الحكيم بتحريم محاربة الكورد
September 08, 2024

كثيرة هي الأحداث التاريخية التي أثرت على حياة الأمم والمجتمعات لكن لم تجد أحداً يدونها للتاريخ في وقتها فصارت تُروى شفهياً بين الناس من دون معرفة تفاصيلها والكيفية التي رافقت هذه الأحداث.

في عام 1963 عندما كان عبد السلام عارف رئيساً للعراق، شنت السلطات حملة عسكرية شاملة للقضاء على الحركة التحررية الكوردية، فأرادت الحكومة الحصول على دعم ديني من الداخل والخارج لتبرير هذه الحملة على أناس لا يتعدى جرمهم سوى المطالبة بحقوقهم القومية والثقافية آنذاك. وبسبب أن الغالبية من جنود الجيش العراقي هم من الإخوة الشيعة، كانت السلطات بحاجة إلى الحصول على فتوى من المرجعية الشيعية العليا المتمثلة في وقته بالمرجع الأعلى آية الله محسن الحكيم، بغية دفعة معنوية للجنود الشيعة.

وقد أحست القيادة الكوردية بهذه الدسيسة، فأمرت كوادر الحزب الدیمقراطی الكوردستاني باختیار ثلاثة رجال دین من الكورد یحملون رسالة القائد الخالد مصطفى البارزاني الشفهية إلى السید محسن الحكيم، وتألف الوفد من ثلاثة أئمة في الجیش العراقي هم العلامة المرحوم الدكتور مصطفى الزلمي، والأخ المرحوم محمد علي نجل العلامة الملا محمد الملقب بـ«الرئیس»، وكان مسؤول واسط فی الحزب الدیمقراطی الكوردستانی آنذاك، والدكتور محمد شریف أحمد وهو أحد شهود العصر الذين كانوا من المشاركين الرئيسيين في إقناع السید المرجع الأعلی بمشروعیة الحركة الكوردیة العادلة.

وقد أشار الدكتور محمد شريف في مقال سابق له في «كوردستان بالعربي» تحت عنوان «الكورد عامل استقرار» إشارة سريعة إلى هذه الزيارة التاريخية التي لأهميتها ولمعرفة خلفياتها وتفاصيلها أحببنا في المجلة إجراء هذا اللقاء معه، ليكون مرجعاً تاريخياً لمن يريد الخوض في هذا الموضوع.

بداية سألنا الدكتور شريف عن سبب الانتقال من أربيل إلى بغداد وهو لم يزل شاباً يافعاً لا يتجاوز عشرين عاماً. فأجاب بأنه كان أحد أحلامه في الحياة العلمية هو الدراسة في جامعة الأزهر، لكن القدر ساقه ليصبح إماماً في الجيش العراقي برتبة ضابط، ومن ثم أدى الامتحان الثانوي خارجياً، ليحصل على درجة تؤهله إلى الالتحاق بكلية الحقوق، ومن ثم إكمال دراسة الماجستير والدكتوراه في القانون.

أما بشأن حيثيات زيارة السيد محسن الحكيم، فسألنا عن علاقته آنذاك بالثورة الكوردية والحزب الديمقراطي الكوردستاني وتنظيماتها، فأجاب بأنه انتمی إلی الحزب الدیمقراطي الكوردستاني عام 1958 بعد ثورة الرابع عشر من تموز.

«وهل تكليفكم بزيارة المرجع الشيعي جاء مباشرة من القائد الراحل الملا مصطفى البارزاني» سألنا الدكتور شريف، فأجاب: «بل من ضابط في الجيش كان منتسباً للحزب الديمقراطي ومسؤولاً عنا تنظيمياً، للأسف نسیت اسمه، وقد توفي منذ زمن».

وتركنا الدكتور يرجع بذاكرته إلى تلك الأيام، فاسترسل في الكلام كيف أنهم هم الثلاثة نزعوا البلدات العسكرية، وذهبوا بهيئة علماء دين أكراد، لخطورة موقفهم في حال ما اكتُشف أمرهم وهم يعملون أئمة في الجيش، «ولو اكتُشف أمرنا لتحتم على ذلك إعدامنا فوراً حسب الحكم العسكری». وأضاف أنهم عندما وصلوا إلی النجف وهم لا یعرفون شیئاً عنها توجهوا مباشرة إلی مرقد الإمام علي (كرم الله وجهه). و«بعد صلاة المغرب سألنا طالب علم حوزوي (من الحوزة العلمية) عما إذا بإمكاننا زیارة السید الحكيم، فقال: نعم... تعالوا ورائي».

وأضاف الدكتور بأنهم تبعوه «من زقاق إلى زقاق فصعد بیتاً متواضعاً، فصعدنا وراءه، ووجدنا علی كل درج إماماً، فدخلنا الدار ورأینا السید جالساً علی سجادة وفي جانبه ضیف نجفي، فسلمنا علیه بأدب وقدمنا أنفسنا علی أن كل واحد منا إمام ومدرس قریة في كوردستان، وقلنا له: جئنا رغم خطورة مهمتنا نحمل إلی سماحتكم تحیات القائد مصطفى البارزاني ورسالة مناشدة للتدخل للحيلولة دون إصرار الحكومة العراقیة علی تدمیر القری الكوردیة مع مساجدها ومدارسها الدینیة؛ بل علی إبادة الشعب الكوردي بكل الوسائل الوحشیة، مستعیناً بالجیش السوري والبدو من دون أن یكون للشعب الكوردي أي ذنب سوی المطالبة بحقه في حیاة حرة كریمة».

وبسؤاله عن رد فعل الحكيم وكيفية استجابته لما طرحوه، يقول الدكتور شريف: «اختار كل منا في حوارنا المختصر مع سماحته أسلوب العلماء الفاهمین، فاستجاب لنا بسرعة وقال ما نصه: حسنا فعلتم أن جئتم إليّ، فقد أوفد رئیس الجمهوریة عبد السلام عارف وزیر دفاعه عزیز العقیلي، فأقنعني بأنكم شیوعیون. وهنا تدخل الضیف الجالس (سمّاه لي السید أحمد الچلبي لاحقاً في التسعينات لكن للأسف نسیت اسمه)، وقال: سیدنا... حتى لو فرضنا أنهم شیوعیون، فهل أطفالهم شیوعیون أيضاً؟. وقص لسماحته ما یفعله الحرس القومي البعثي بالشیعة، فقال السید الحكيم: سأسعی لوقف هذا القتال. وحمّلنا تحیاته إلی السید القائد مصطفی البارزاني، ثم أضاف: سیزورني محافظ النجف بعد قليل، ولیس في مصلحتكم أن یراكم عندي. كنت أتمنی أن تبقوا عندي ضیوفاً، ولكن وضعكم خطیر».

فودَّعَ مبعوثي البارزاني الثلاثة أحدُ أولاد الحكيم.. لعله كان أصغرهم. «وفي الطریق أعطانا خمسة عشر دیناراً، ثمن العشاء فقبلناه تبركاً». وتوقف الدكتور شريف قليلاً، وأضاف: «الحق أن ما قمنا به كان مغامرة وحده الله كان لنا حفیظاً فيها، فلم یشعر بنا أحد. ولم نرو هذه المغامرة حتى لأقرب المقربين إلینا».

ولم يقف تأثير فتوى الإمام محسن الحكيم، عند حد التعاطف وتأسيس رابطة أخوية شيعية - كوردية آنذاك، بل إن «المواطنين الشيعة في الجنوب قد استقبلوا المهجرين الكورد قسراً بترحاب يليق بترحاب الأخ لأخيه»، حسبما كتبه الدكتور شريف في مقاله آنف الذكر في «كوردستان بالعربي».

وفي نهاية اللقاء فضل الدكتور محمد شريف أن يضيف أن «هذه القصة وعشرات من المغامرات الحزبیة كانت تمثل هاجساً لاشعورياً عندما ساقني القدر المقدور إلی حیث النقیض، ولكني بقیت كما أنا وانتهت اللعبة».

ومن الجدير ذكره بهذه المناسبة، أن الإمام محسن الحكيم قد أرسل مرة هدية إلى مصطفى البارزاني كانت عبارة عن سترة من الفرو استفاد منها كثيراً في المناطق الجبلية حيث الأجواء الباردة لا سيما في الشتاء، حسبما صرح به الرئيس مسعود بارزاني في كلمته بمناسبة افتتاح «متحف البارزاني الوطني»، التي تطرق فيها، من ضمن ما تطرق، إلى العلاقات الروحية والأخوية للبارزاني الخالد مع العديد من الزعماء الدينيين الشيعة والسنة. وأضاف الرئيس بارزاني «عندما رويت مرة قصة السترة لشهيد المحراب محمد باقر الحكيم، قال لي الحكيم إن السترة في الحقيقة كانت هدية له هو من زائر أفغاني. فمازحته قائلاً: وهل تريد المطالبة باسترجاعها الآن؟».


مسعود لاوه

صحافي من كردستان العراق عمل سكرتير تحرير في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية لأكثر من عشرين عاماً، ومدير تحرير  «كوردستان بالعربي»


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved