أطلت العنوان على غير عادتي، وأعلم أنه ليس من شأن العنوان حسم المسائل والإشكاليات، فالعنوان مجرد رمز أو بوصلة اتجاه، فكان بإمكاني الاكتفاء بعنوان يحقق الغرض من دون إطالة، كأن نقول مثلاً: السلطة والمعارضة. فالمقال يرمي أساساً لبيان الجدلية المفهومة بينهما؛ ولكن بحكمة، والحكمة وضع كل شيء في موضعه، من دون تداخل مشين يخلط الأوراق؛ ولكن لأمر ما، هو شعوري بجسامة الخطأ الكامن وراء إشاعة ثقافة التحمس لعداء السلطة القائمة بإرادة الناس، لاسيما في حالة شعب كوردستان؛ لما يترتب عليه من استقباح الحلم الجميل الذي قدم أجيال من الكورد ضحايا من خيرة الشباب والشابات من أجل تحقيقه، وهو أن يكون للكورد وكوردستان سلطتهم القائمة بإرادتهم، وصوت مستقل بين أصوات الشعوب والأمم؛ لهذا الأمر استعجلت الوصول إلى هذا الهدف بهذا العنوان القاطع.
وإذا كان لنا بعض التبرير من قبلُ في كراهية السلطة التي حرمتنا من الشعور بوجودنا كشعب وأمة، وأحاطتنا بقيود وسلاسل تحول دون استمتاع الشعب الكوردي بحريته؛ فلا مبرر على الإطلاق لهذه الموجة العاتية من الكراهية للسلطة التي حازت شرعية الانتخابات وشرعية النضال القاسي لاستقلال الكورد وحريتهم، فعلى الإعلاميين والتربويين العمل على إشاعة ثقافة الاحترام للسلطة لا ثقافة الكراهية، والحذر من إسقاط هيبة الدولة ومؤسساتها في نفوس المواطنين؛ حفاظاً على حرمة القانون وقدسيته. ففي مثال سقراط الحكيم، وشربه السم رغم قناعته بفساد حكام زمانه عبرة لمن فكر ودبر؛ فليس من الموقف الحضاري البنّاء أن تسود ثقافة الكراهية للسلطة وما يتبعها من كراهية كل ما ينتمي إليها؛ فهذه إيذان بانهيار المنظومة الفكرية للمجتمع، وإسقاط لاحترام القانون، ومنتهى الإحباط لمشروع الحماس لتحقيق حلم الأمة الكوردية في دولة مستقلة يسودها القانون. والدولة هي السلطة.
ولا يتوهمن أحد بأني بهذا المقال أؤسس للقبول بالفساد المستشري بين أيدي السلطة، وأهم مظاهر هذا الفساد غياب تكافؤ الفرص وضياع قيم العدالة في توزيع الثروة والوظيفة، وظاهرة المحسوبية والمنسوبية، فحاشا أن أكون من المروّجين لأي فساد في الأرض وبالأخص في أرض كوردستان التي لم تنعم بعد بحريتها واستقلالها المنشود. والذي أريده وأروّج له في هذا المقال هو أن السلطة مفهوم حضاري دستوري لا يستغني عنها مجتمع له أرضه وتقاليده وشعوره العام المشترك بالانتماء إلى شعب وأمة. هذه كانت حلماً غنى من أجله المنشدون، وسال لإروائه دماءُ البيشمركة، ولاتزال جبال كوردستان المنيعة تحكي - بآثار أقدامهم، وبإقدامهم على مواجهة الظالمين المغتصبين - الملاحم التاريخية التي خاضوها من أجل هذا اليوم الذي تقام فيه سلطة كوردية منتخبة ديمقراطياً في كوردستان. كان فعلاً، حلماً، جميلاً وخيالاً، ما تصوره أحد قريباً.
وفي علم أصول الفقه الإسلامي قاعدة مستقرأة من أحكام الشريعة تقول: تهدف أحكام الشريعة الإسلامية إلى تحقيق مصالح الناس لأن الله سبحانه غني عن الغرض والعبث، وفي هذا العلم تصنيف بديع لمصالح الناس حسب أهميتها عندهم يقوم على توزيعها على ثلاثة أنواع كالآتي:
1) المصالح الضرورية وهي التي لا تستقيم الحياة بدونها، أي يقوم عليه نظام الحياة كالنفس والمال والعقل والدين والنسل.
2) المصالح الحاجية التي لا ترقى إلى الضرورات؛ لكنها تيسِّر سبل الحياة، وترفع الحرج عنها، وتضمن سلامة الأمور.
3) المصالح التحسينية وهي التي تقتضيها آداب السلوك وجمال الفعل وكماله.
وما اختلف نظام ولا فلسفة في أن السلطة من ضرورات بقاء المجتمعات، فلولا السلطة لأصبحت الحياة فوضى وعبثاً لا حدود له، ولا قيمة للرأي الشاذ الذي يرفضه العقل والمنطق والواقع. والتلازم بين السلطة والقانون والمجتمع تلازم وجوبي، إذ بدونها يتعذر ضبط الغرائز والميول المتنافرة؛ ومن هنا تأتي مسألة ضرورة السلطة والقانون ضمن مدخل علم القانون، وكذلك فعل علماء الفقه السياسي الاسلامي كالماوردي في «الأحكام السلطانية» والغزالي في «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية» وغيرهما؛ إذ أكدوا أن الإمامة - السلطة - ضرورية؛ وإن اختلفوا فيما إذا كان وجوبها بالشرع أو بالعقل، لكنها عند التحقق تبدو أنها ضرورة اجتماعية بدونها يكون الفساد في الأرض ولا يتحقق الاستخلاف فيها.
والسلطة، وفقاً للتصنيف أعلاه، تقع ضمن الضرورات، ولا ريب. فلا يمكن للمجتمع أن يستقر من دون قانون وسلطة تحميه، أما موقع المعارضة في هذا التصنيف ففي درجة أدنى، إذ هي حاجة وعون لديمقراطية النظام وما هي بضرورة له. ولو تعمقنا أكثر في أوجه المقارنة بين السلطة والمعارضة لتبين أن السلطة تتحمل أعباء المسؤولية الكلية، أمام شعبها والعالم، في مهام إدارة المجتمعات، التي تضم وضع الضوابط والمعايير والقوانين والأنظمة والتعليمات وتوفير الأمن والسعادة وتحقيق العدالة. وهي التي تُساق إلى المحاكم بناء على دعوى مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة. وهي التي عليها أن تواجه الجماهير الغاضبة لشريحة أو شرائح اجتماعية، شعرت بالغبن والتضرر من تشريع أو قرار.
أما المعارضة فقد يكون لها دور في توعية الشرائح الاجتماعية بما لها من حقوق ضائعة مثلاً؛ ولكن لا أحد يحملها المسؤولية، فهي جالسة على كرسي الراحة تتفرج؛ لعلها تكشف ثغرة، أو تقتنص صيداً. وإذا كان للسلطة ورجالها بعض الميزات والمتع الوقتية بالإضافة إلى وظيفتها، «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، فإنما هي بدل خطورة المسؤولية. ألم يتقرر في الفقه الإسلامي والقانون المدني وقوانين المال أن «الغنم بالغرم» فقد وصف القانون بأنه قاعدة صلح، وفلسفته تحقيق التوازن بين مصالح الأفراد والمجتمعات. ولم يعد القانون، ولا كان يوماً ما في حقيقته، تعبيراً عن مصالح ضيقة للطبقة الحاكمة، فكم من طاغية شُنق أو قُتل استناداً إلى القانون الذي أصدره. فقد كان القانون يصور على أنه أعمى تعبيراً عن صفته التجريدية. وإن كنت قد انتقدت هذه الصورة القديمة للقانون في إطروحتي للدكتوراه في القانون عام 1979 في جامعة بغداد، وطالبت فيها بضرورة وجود رؤية عميقة لاختلاف الظروف وأثره في تشكيل العدالة، وهو ما سمي «التفريد في علم العقاب».
فهل هناك ميزان يستطيع أن يعادل في كفتيه بين السلطة بكل ما تنوء به من أثقال ومسؤوليات تمتد إلى ضرورات الأمة وحاجاتها وتطلعات الناس جميعاً من دون تمييز، وبين المعارضة التي تنحصر مهامها الرئيسية في الرقابة على أداء الحكومة لمسؤولياتها، والتنبيه إلى ما هو أفضل وأصلح للمواطنين؟ فشتان ما بين الكفتين!
ولا أبتغي بهذا إطلاقاً التقليل من أهمية المعارضة، ففي المعارضة العقلانية السليمة يكمن جوهر الديمقراطية، وبدون المعارضة الجادة لا يُقبل الحديث عن الديمقراطية، ولا ديمقراطية من دون القبول بالرأي الآخر. والحكومة التي تضيق الخناق على معارضيها، من دون شرعية قانونية، تقدم أدلة إدانة لأدائها الحكومي. والقانون هو الحكم، وهو السيد، ومفهوم مرجعية الشارع بدعة، وإنّ غضبَ الشعب من حكامه في النظام الديمقراطي يتجلى في نتائج صندوق الانتخابات، وهو بمنزلة مرجعية العوام للدعاة والفقهاء، والمرجعية في النظم السياسية والقانونية الحديثة هي الدستور والبرلمان والمعاهدات الدولية الملزمة.
وقد أكدت الدساتير الحديثة ومنها الدستور العراقي ومشروع دستور إقليم كوردستان أن الشعب مصدر السلطات، فليس للشارع ولا لأي كاريزما قومية أو دينية أو عسكرية أن يعلو إرادة الشعوب الواعية، وأظن أن وعي الشعوب تجاوز منذ مدة مرحلة الشرعية الثورية التي كانت بدعة لضرورات الإنقاذ في مرحلة الثورات الشعبية الغابرة، وسيتجاوز أيضاً بدعة الشوارع الجارية بعد انقشاع ضباب حركة التوازن الجديدة فيما يُسمى الربيع العربي، ليستعيد عقل الحكماء وإرادة الشعوب قيادة السفينة نحو بر الأمان.
وما ساقني إلى تلك الموازنة بين كفتين لا وجه للتوازن بينهما، إلا ما لاحظته من ارتباك لمقدم ندوة لقاء بين ممثلي السلطة والمعارضة، احتار كيف يقدم طرفاً على طرف في هذا اللقاء؟
فإذا كان هذا القران بين السلطة والمعارضة بمثابة تقويم عام لطبيعة واختصاص كل منهما، فللسلطة الكوردية المنتخبة شأن خاص؛ فبالإضافة إلى ضرورتها السياسية لاستقرار المجتمع وضمان الحرية والعدالة للمواطنين، كما هي شأن كل سلطة في المجتمع؛ فهي حلم راود الآباء والأجداد فماتوا من دون أن تقر أعينهم بمشهد العَلَم الكوردي على سارية عاصمة كوردية.
وما يبتغيه، في بعض الأحيان، جانب من الإعلام الكوردي، من رسم صورة بشعة للسلطة الكوردية بسبب تصرفات بعض المحسوبين عليها، اختراق فظيع لجدار البيت الكوردي المأمول، وخنق للوليد وهو لما يزل في رحم الأم. أليست هذه كارثة اجتماعية؟
وإذا كانت تلك خصوصية هذه التجربة الكوردية الفتية في السلطة، فإن مسؤولية قادتها ورجال حكومتها تتضاعف تجاه حمايتها من كل فساد أو دنس أو استغلال للنفوذ، وهذا لا يقلل من مسؤولية الآخرين، معارضين أو مقربين، تجاه الإبقاء على هذه التجربة نقية؛ كما أرادها من ضحوا بحياتهم من أجلها ولم ينعموا بطعمها.
ومعلوم أن مفهوم السلطة تطور عبر تطور الوعي الإنساني ولسنا هنا بصدد استعراض هذه التطورات، فالمهم أن البشرية تجاوزت مراحل السلطة المطلقة الغاشمة التي كانت تحكم من دون قانون أو شرع، بل قد نضجت فكرة الدولة القانونية أو الشرعية الدستورية، فلم يعد مقبولاً، لا في العرف الدولي ولا في وعي الشعوب، دولة غير قانونية أو غير دستورية.
ولا يتخيلنَّ أحد بأنني أقف هنا مع وعاظ السلاطين، كلا، فشتان ما بين السلاطين والسلطة، فالسلاطين هم أولئك الذين حكموا الشعوب كما يسوق الراعي القطيع، أما السلطة فهي تجسيد لإرادة الشعب وفق انتخاب ديمقراطي حر، فلا يجوز الفصل بين الشعب وسلطته المنتخبة ديمقراطياً. وإن احتقار السلطة احتقار لإرادة الشعب، وإن تعميق هذه الثقافة في الجيل الكوردي الناشئ الذي لم يشهد تجربة الحرس القومي أو الجيش الشعبي أو الأنفال يحبط الأمل في نقلة نوعية أخرى نحو تحقيق الحلم الكبير في كيان مستقل، كما قلنا.
إن النظام قدر الله في الكون والطبيعة «إنا كل شيء خلقناه بقدر» والنظام غريزة في حشرات وحيوانات، وإرادة عاقلة في الإنسان، لا بد منها لبقاء الإنسان، والسلطة حصيلة هذه الإرادة.
وإذا كان في أعمال وتصرفات بعض الحاكمين باسم السلطة أو المقربين إليها بعض الفساد أو الفساد كله؛ فعلى الجهات الرقابية، ومنها البرلمان بجناحيه المؤيد والمعارض خاصة والادعاء العام وأطراف المجتمع المدني عامة، فضح هذا الفساد وتحريك الدعوى ضده.
وإذا عجزت الحكومة عن توفير بيئة صالحة للتعاون مع هذه الأجهزة لتحقيق الإصلاح، أو فشلت في إرادة قوية للإصلاح فعليها أن تتنحى لحكومة أخرى قادرة على ضبط سيادة القانون، أو لانتخاب جديد. ولكن حذار من المس بكرامة السلطة المجسدة لوحدة الشعب وروحه.
كاتب ومفكر كوردي مختص في فلسفة القانون