كان هاوياً للموسيقى مُنذ طفولته، وله خبرة في المجال جعلت موسيقاه تتميّز بالدمج بين الفلكلور العراقي والعزف على آلة «الغيتار»، مُتخذاً خطوة فريدة برزت من خلالها ملامح الأغنية التراثية العراقية، ومكنته من تحقيق أسلوب موسيقي خاص به، لينجح بتقديم نمط غنائي متفرد، بنكهة مختلفة. وبهذا النهج أنقذ الأغاني التراثية من الاندثار والنسيان، ليمسح عن روح مستمعيه غبار الحياة اليومية، وأسس في بداية ستينات القرن الماضي أسلوبه ومدرسته الخاصة به، لتبقى قائمة لغاية يومنا هذا. هذا هو الفنان والموسيقار العالمي «إلهام المدفعي».
انتقل المدفعي إلى إنكلترا لدراسة الهندسة في لندن، ثم عاد إلى بغداد عام 1967، وفي 1979 ترك العراق وتنقل بين دول العالم مع آلة «الغيتار» بأسلوبه الذي ابتكره، عاد إلى العراق مرةً أخرى عام 1991، ثم غادر العراق سنة 1994، وفي عام 1999 منحهُ الملك عبد الله الثاني بن الحسين الجنسية الأردنية.
من هو إلهام المدفعي؟
ولد الموسيقار العالمي «إلهام المدفعي»، في عام 1942، في العاصمة العراقية بغداد. سماه «إلهام» الشاعر العراقي الكبير معروف عبد الغني الرصافي الذي كان صديقاً لوالده ذي الأصول الكوردية ومن عشيرة «دزَيي»، وكانت والدته من عشيرة «شيرواني». ويقول ابنه الإعلامي محمد المدفعي إن والده «تربى في بيت يعشق أهله الفن، ولديه أربعة إخوة معماريين معروفين على مستوى العالم العربي. حيث كانت الآلات الموسيقية دائماً حاضرة في منزلهم».
أول آلة «غيتار» امتلكها
منذ طفولته، تميز إلهام المدفعي بحبه للموسيقى، وكان متفوقاً في مادة الموسيقى والنشيد في المدرسة. بدأ رحلته الموسيقية في سن الثانية عشرة عندما أهدته ابنة عمه، عازفة البيانو، غيتارها الذي اشترته لتتعلم العزف عليه بعد أن رأت براعته في عزف أغنية «البنت الشلبية» على وتر واحد. ليصبح هذا الغيتار رفيق دربه أينما ذهب.
المدفعي المتعدد المواهب
لم يكن إلهام المدفعي موسيقاراً فحسب، بل كان أيضاً رياضياً بارزاً. مثّل منتخب العراق لكرة السلة، وشارك في ألعاب القوى، وحقق بطولة العراق في لعبة البولينغ. كما كان مشجعاً متحمساً لفريق «تشيلسي» لكرة القدم، مما يعكس شغفه بالتنوع والتميز في حياته.
أسلوب مُختلف ومُميز
بعد مغادرته العراق بداية ستينات القرن الماضي لدراسة الهندسة في إنكلترا، برزت لديه فكرة تقديم الأغاني التراثية العراقية بأسلوب لم يقدمه أحد قبله، وبدأ بالبحث عن الأغاني العراقية التراثية وقدمها بأسلوبه الغريب في حينها. ويقول إلهام المدفعي لـ«كوردستان بالعربي» إنه كان «أول شخص قدم الأغاني التراثية بأسلوب مُميز، في وقت لم يكُن للشباب أي موسيقى يتعلقوا بها»، وكانت الموسيقى الغربية هي السائدة في المناسبات والنوادي والحفلات.
وعندما أعاد المدفعي تقديم تلك الأغاني بالأسلوب الجديد، «كسبتُ ثقة الشباب ونلتُ إعجاب الكثيرين في وقتها، رغم اعتراض بعض النُقاد علي، حتى أنني حوربتُ من كل السلطات الرسمية في ذلك الوقت، واعتبروا ما فعلته في الأغنية التراثية العراقية تخريباً». لكنهم، حسبما يؤكد المدفعي، اكتشفوا لاحقاً «أنني لم أغير في أساسات الموسيقى ولا في مقامها، إنما قدمتها بأسلوب قريب للشباب في ذلك الوقت»، وهذا ما جعل الشباب يعودون لسماع الأغنية الأصلية من صاحبها الذي غناها أول مرة مثل شعوبي إبراهيم، ويوسف عمر ومحمد القبانجي.
وفي إحدى الجلسات الحوارية بين الموسيقار إلهام المدفعي والفنان وأستاذ المقام العراقي المعروف شعوبي إبراهيم، حول الموسيقى والمقامات العراقية، «قال لي شعوبي إبراهيم: لو لم تغنِّ أغانيَّ بأسلوبك الجديد، لما عاد الناس لسماعها من الأساس». وهذا اعتراف واضح من فنان كبير في ذلك الوقت بأن المدفعي مدرسة في الفن.
55 عاماً من العطاء الفني
خلال مسيرة الفنان لمدة 55 عاماً، التقى إلهام المدفعي، كما روى لنا، بفرق موسيقية عالمية كثيرة مثل «البيتلز» التي كانت فرقة روك غنائية بريطانية تشكلت في ليفربول عام 1960، وأصبحت أكبر الفرق الموسيقية نجاحاً وأشهرها في تاريخ الموسيقى الشعبية. وأبدوا إعجابهم بأسلوب المدفعي في تقديمه الموسيقى مع أغانيه على «الغيتار» بطريقة مختلفة. والتقى خلال مسيرته الفنية أيضاً بفنانين كبار، منهم الملحن والموزع وكاتب الأغاني والناقد الملقب بـ«ستينغ»، وبول أنكا وعازف الغيتار ومغني «بلوز» وكاتب الأغاني الأمريكي «بي بي كينغ» والعديد من الفنانين العالميين الآخرين.
والمدفعي مختلف أيضاً في تقديمه للموسيقى على المسارح العالمية وبأسلوب مميز، ويشرح ابنه محمد المدفعي، إن «والدي عندما يعتلي منصة المسرح يكون العازفون وآلاتهم الموسيقية بشكل مستقيم على جهتيه اليمنى واليسرى، احتراماً للآلات والموسيقيين، ولإبرازهم بشكل شخصي». موضحاً أنه من خلال هذه الخطوة، «أبرز العديد من نجوم الموسيقى والعازفين على آلات الناي، والقانون، والغيتار، فاكتسبوا خبرة من خلال العزف مع المدفعي وأصبحوا أعمدة في مجال الموسيقى».
وعن الأماكن التي غنى فيها المدفعي، كشف لنا أنه غنى في أشهر مسارح العالم كـ«رويال ألبرت هول» و«كوين إليزابيث هول» في لندن، ومسرح «تريانون» في باريس، ودور الأوبرا في العديد من دول العالم.
يفتخر إلهام المدفعي بـ«أنني أول من غنيت لبغداد أغنية الشاعر الكبير الراحل نزار قباني، علماً أنه كانت تربطني مع قباني صداقة كبيرة، وصلة قرابة مع زوجته الراحلة بلقيس».
ويروي محمد المدفعي عن والده أنه «أول فنان حط رحاله في بغداد، رغم صعوبة ظروف العراق الأمنية بعد عام 2003، وغنى لمحبيه من دون مقابل مادي، رغم كل التحذيرات التي وصلت إليه لكنه لم يُبالِ لها وذهب». وبعد أن شاهده الفنانون الآخرون وهو يغني في بغداد تشجعوا للذهاب إليها وإقامة حفلاتهم فيها.
ويضيف إلهام المدفعي أن «كل زاوية في بغداد لها معي ذكرى كبيرة من ذكرياتي منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي، كما أن ذكريات كوردستان بالنسبة لي أيضاً لن تُمحى أبداً من ذاكرتي». ويشير محمد المدفعي إلى أن والده كان «أول من قدم حفلات وجولات في كوردستان العراق، فأصبح له جمهور كبير في كركوك وأربيل والسليمانية، وامتدت الى جميع مدن ومحافظات العراق».
تعد تجربة إلهام المدفعي العالمية رمزاً للتجديد في الموسيقى العراقية والعربية، وجسراً بين الأجيال المختلفة. قصته ليست مجرد قصة موسيقية؛ بل هي قصة حياة مليئة بالإبداع والتحديات والانتصارات، تتجاوز الحدود وتصل إلى القلوب في كل مكان. ويجب تسليط الضوء عليها، فهو مدرسة فنية خاصة وفريدة من نوعها، يقدم الفن للجمهور بأسلوب مختلف عن الماضي وكذلك الحاضر، لذا هو الآن «بصدد تقديم مشروع (أكاديمية إلهام المدفعي) في العاصمة السعودية الرياض، حيث تم منحي إقامة دائمة هناك». وهذه الأكاديمية هي لتعليم أسلوب إلهام المدفعي في الفن. وهناك نية لإطلاق مشروع مشابه في بغداد بالتعاون مع أمانة العاصمة العراقية.
صحفي عراقي عمل في العديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية