«موسم وحيد القرن» فلم جمع نجوماً عالميين
«موسم وحيد القرن» فلم جمع نجوماً عالميين
September 24, 2024

في فلمه «موسم وحيد القرن» (Rhino Season) 2012، يختار المخرج الكوردي بهمن قوبادي، صاحب «السلاحف تستطيع الطيران» و«زمن الخيول الثملة»، حالة شعرية يصور بها إيران بين زمنين: زمن الشاه وزمن الجمهورية. يبرز الاختلاف بين الزمنين عبر الألوان القاتمة والظلال والأقبية والسجون والحواجز التي تسود زمن الجمهورية.. ثمة فارق آخر يُظهر الحالة المدنية التي كانت عليها إيران وذلك بالندوات الشعرية، وأيضاً من خلال الفرز المذهبي الذي ظهر في زمن الجمهورية عند الإشارة إلى مذهب الشاعر السني وزوجته الشيعية أثناء التحقيق معهما في السجن. واختيار قوبادي لشاعر لا يخلو من قصد لتبيان البون بين النقيضين المدني والديني، الشعري الحالم والطغيان. وقد صنع قوبادي فيلمه بلغة سينمائية شعرية وزع خلال مشاهده قصيدة بصوت الساردة ترثي فيها الشاعر، وتلخص حياته ومصيره:

«احمل الجدران على كتفيك وارحل.. أنت مطارد من قبل عنكبوت ينسج خيوطه حولك.. ثمة شوكة عالقة في حلقك.. عندما تموت القصيدة فيك ستتعفن جثتها وتفوح رائحتها.. الجثة التي بقيت منك تتساقط من جفن حصان نصف نائم ونصف مستيقظ.. أنت حقل ملح تذروه الرياح.. قبرك ظاهر وعربة الصلوات تدور حول نفسها تنثر اللعنات في الأرض الملعونة.. هناك جثث هامدة مع جثث حية مختفية.. الهواء خنجر والماء خنجر.. وحده الحي على الحدود سيخلق أرضاً».

تضع مينا العبارة الأخيرة في القصيدة وشماً على ظهر ساحل في إشارة إلى أن الوطن لم يعد المكان الملائم للعيش.

 

الثورة أداة انتقام

يُهدي قوبادي فيلمه إلى ذكرى صانع جالة وفرزاد كامانجار: الأول طالب إيراني قُتل بالرصاص خلال مظاهرات 14 فبراير 2011 في طهران، والثاني مدرس كوردي إيراني، وشاعر، وصحفي، أُعدِم في 9 مايو 2010 بتهمة «معاداة الله» والانتماء إلى حزب الحياة الحرة الكوردستاني والمشاركة في الهجمات بالقنابل، وهي تهم لم تثبت عليه، بحسب محاميته. كما يهدي قوبادي فيلمه إلى جميع السجناء السياسيين الذين لا يزالون محتجزين في السجون.

فيلم «موسم وحيد القرن» مبني على حياة الشاعر الإيراني الكوردي صِدِّيق كامانجار الذي قضى 27 عاماً في السجون الإيرانية وقيل لعائلته إنه توفي، فظلَّت تبكي لسنوات على قبر مزيف. سيكون لهذه الكذبة تداعيات على حياة الشاعر وعائلته؛ واختيار الشاعر هنا لا يعني أنها حالة خاصة، واغتصاب أكبر رضائي، وهو أحد المحسوبين على الثورة، لمينا (مونيكا بيلوتشي) وهي في زنزانة المعتقل لا تخلو من دلالة.

ثمة دافع شخصي للانتقام يرافق الانقلابات والثورات، والحب من طرف واحد هنا، هو المحرك الرئيسي. كان أكبر رضائي يعمل سائقاً لمينا، ابنة أحد جنرالات الشاه. وبعد أن صارحها بحبه، تخبر والدها، الذي يقوم بضربه وطرده. وبعد قيام الثورة نجده وقد تبوأ منصباً يسمح له بالاستيلاء على منزل الجنرال وإلقاء القبض على ابنته مينا وزوجها الشاعر ساحل بتهم ملفقة تتلخص في التآمر على الجمهورية، وكتابة قصائد ضدها. يُحكم على ساحل بثلاثين سنة وعلى زوجته مينا بعشر سنوات. وبعد اغتصابها تنجب توأمين، ثم يطلق سراحها ويقال لها إن زوجها قد توفي لنراها وهي تبكي على قبره المصطنع.

بعض مشاهد الفيلم

يبحث ساحل عن زوجته مينا بعد خروجه من المعتقل، يجدها في إسطنبول. يراقبها من بعيد متهيباً اللقاء بها. ثمة حاجز نفسي يحول دون لقائهما، وسيكون لهذا الحاجز مرادف بصري، ملموس، متمثل في الحواجز الزجاجية التي تفصل ساحل عن مينا وعن الحياة عموماً، في إشارة إلى استمرار سجنه بطرق مختلفة. يلتقي ساحل بابنته مصادفة، وهي تعمل فتاة ليل من أجل جمع مبلغ يمكنها وأمها من الهجرة إلى أوروبا. ذات ليلة تعود معه برفقة صديقتها إلى منزله، تعاشره وهو تحت تأثير الكحول. حين يستيقظ في الصباح، يقرأ التاتو على كتفها؛ مقطع من إحدى قصائده، ويصاب بصدمة حين تخبره صديقتها بأن الأم (مينا) هي من رسم الوشم على كتف ابنتها. ويبقى أمر توأمَيْ مينا غامضاً: هل هما ابنا ساحل أم ابنا أكبر؟! يتشكل من هذا الغموض دلالة تصور جيل ما بعد الثورة الهجين وضياعه وبحثه عن طريق للخلاص. 

بعض مشاهد الفيلم

لم شمل مستحيل

يبدأ الفيلم بلحظة إطلاق سراح ساحل في عام 2009، ثم يعود بالذاكرة إلى طهران 1977، لحظة توقيع ساحل لديوانه «قصيدة وحيد القرن الأخيرة»، ثم ينتقل بالزمن إلى إسطنبول 2010. ثمة رابط بين عنوان الديوان وعنوان الفيلم، ورابط آخر في مشهدين لوحيد القرن: الأول حين اصطدمت به سيارة ساحل، والثاني وهو يطفو على سطح الماء، لكن تظل العلاقة بين العنوان والمضمون بعيدة ولا تخلو من جمال شعري مسيطر على روح الفيلم.

وبعد عثور ساحل على مينا، تستشعر مراقبته لها فتساورها الشكوك في هويته، لكنهما لا يلتقيان كما ينبغي لزوج وزوجته بعد غياب طويل. السجن وما لاقياه فيه كان قد قتل الحياة في نظرهما وحوَّلهما إلى جثتين. الشوق واللهفة ترافق أي لقاء طبيعي بين زوجين فرقتهما الظروف، أما هنا فالسجن قد قتل فيهما الحياة، خصوصاً ساحل، الذي لم يعد لديه من علامة حياة سوى رغبته في الانتقام، وعندما قاد سيارته باتجاه النهر، ورضائي محتجز في المقعد المجاور، كان أشبه بجثة. 

لا يخرج الإنسان من سجون الطغيان كما دخلها. ظلت أصوات بوابات الزنازين تلاحق ساحل وهو يقود سيارته. يتداخل العالمان، عالم المعتقل والعالم خارجه من خلال هذه الأصوات، أو أن المعتقل ظل يطارده، ولن يسمح له بالحياة الطبيعية، فكان من المحتم أن ينتهي ساحل إلى هذا المصير، أن يلحق جسده بروحه التي ماتت منذ سنوات. وبموته تحرر الشاعر، وغادر سجنه.

نحن لا نرى مشاهد التعذيب إلا عن طريق الاسترجاع وقد أطلق سراحه بعد استكمال مدة السجن. في الأرشيف الذي يضم ملفه يحضر الملف موظف اسمه «سافاك»، ويعني بالفارسية المخابرات والأمن القومي، أو الشرطة السرية في ظل النظام الملكي، وباستعمال الاسم هنا يريد المخرج أن يقول إن تغير النظام لا يأتي بعده، بالضرورة، تغير في القمع والمطاردات.

يتشظى الواقع في نظر ساحل ويتشوه. تطارده الكوابيس والهلوسات، ومشهد الانتقام يبدو أنه امتداد لمطاردة قطيع وحيد القرن. ويبدو أن نظرة الشاعر هي التي انتصرت في الأخير ليدرك أن الانتقام غير مجد أو أنه غير ممكن والأجدى هو التخلص من الذات ليتخلص من الجحيم الذي يقاسيه. 

بعد انتشال سيارة ساحل يخصص قوبادي مشهداً سوريالياً أخيراً لساحل وهو يخرج من سيارته، يدخن سيجارة ثم يمضي في طريق على أرض جافة متشققة قبل أن يختفي في الأفق وسط بياض تدريجي يسود الشاشة. ثمة إضاءة شعرية هنا تقول: «سيحيا الشاعر في قصائده أما الكهنوت فسيغرق في ظلامه».


رياض حَمَّادي

كاتب وناقد ومترجم من اليمن، ترجم عدداً من الكتب والروايات


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved