نقلتني المرحلة الجامعية من التعاطف عن بُعد إلى التفاعل عن قرب، وخصوصاً كنت قد تعرّفت فيها على عدد من الطلبة الكورد، أولهم صديقي التاريخي شيرزاد النجار، وتمتد صداقتي معه إلى أكثر من 60 عاماً، وحتى حين افترقنا للدراسة في الخارج، وكلّ منا في بلد، كنت أسأل عنه ويسأل عني. وكان معي في الصف ذاته طيب محمد طيب البرواري، وهو صديق المحامي حسن شعبان كذلك، إضافة إلى علاقتي مع نوشيروان مصطفى وحواراتي معه، وهو ما دوّنته في كتابي «بشتاشان - خلف الطواحين... وثمة ذاكرة: شهادة وليست رواية» (2024)، وفرهاد عوني وصلاح عبد الجبار المندلاوي وعادل مراد وآخرين، كما كان هناك عدد من الطلبة الكورد الشيوعيين، بينهم صديقنا نوروز شاويس ويوسف مجيد وحسن وجمال أسد وصلاح زنكنة ومالك حسن وآخرين. وقد شهد عام 1967 أربع أحداث كبرى:
الحدث الأول: الانتخابات الطلابية التي جرت في ربيع عام 1967، التي كان التعاون جلياً فيها مع الطلبة الكورد. وكانت النتيجة فوز اتحاد الطلبة بنحو 76% من المقاعد الانتخابية، الأمر الذي دفع الحكومة لإلغاء نتائج الانتخابات في اليوم التالي بحجة أن «القوى الشعوبية بدأت ترفع رأسها من جديد».
الحدث الثاني: عدوان 5 حزيران / يونيو 1967، الذي شارك فيه الطلبة الكورد بحماس معنا في المظاهرات العارمة التي عمّت بغداد، وأستطيع القول إن حماستهم لم تكن أقل من حماسة الآخرين، وحين سمعنا أن الحركة الكوردية أوقفت عملياتها العسكرية، زاد الأمر من تقديرنا، علماً أن ثمة هدنة تمّ توقيعها في 29 حزيران / يونيو 1966 مع حكومة عبد الرحمن البزاز.
الحدث الثالث: الانشقاق في الحزب الشيوعي في 17 أيلول / سبتمبر 1967، الذي انقسم إلى فريقين؛ الأول - القيادة المركزية (مجموعة عزيز الحاج)، والتي كانت تمثّل أغلبية كوادر وقواعد الحزب، لاسيّما النشيطة؛ والثاني - جماعة اللجنة المركزية (الفريق المعتمد لدى السوفييت بقيادة عزيز محمد)، وقد انقسم الشيوعيون الكورد بين الفريقين، ولاسيّما في بغداد، التي شهدت صراعاً حاداً انعكس على الشارع، حيث شهد صدامات عديدة.
الحدث الرابع: الإضراب الطلابي أواخر عام 1967 ومطلع عام 1968، الذي ساهم فيه الطلبة الكورد بفاعلية، وقد عقدنا عدداً من الاجتماعات مع قيادات كوردية وطلابية لتعزيز الموقف، خصوصاً وقد راجت حينها فكرة الدعوة إلى «جبهة طلابية موحدة»، وهو ما كنا قد اقترحناه في إطار اتحاد الطلبة، بالتعاون والتحالف مع اتحاد طلبة كوردستان والاتحاد الوطني لطلبة العراق (مجموعة سوريا)، وتنظيمات الحركة الاشتراكية العربية، التي شكلت لاحقاً وبدعم منّا ما سمّي «جبهة الطلبة التقدميين» في انتخابات عام 1969، وكانت الصلة أيضاً مع تنظيمات حزب العمال الثوري العربي (مجموعة علي صالح السعدي).
في هذه الفترة تعزّزت علاقتي مع الكورد من الفريقين، جناح المكتب السياسي وجناح الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وأتذكّر أنني في مناسبات عديدة زرت مكاتب جريدتَيْ «النور» و«التآخي»، تعبيراً عن التضامن ولشرح بعض القضايا، والتقيت بمام جلال طالباني وصالح اليوسفي أكثر من مرّة.
ما بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968
بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 كنت على اتصال مستمر بقيادات الطلبة الكورد، ودخلنا مفاوضات مشتركة طيلة عام 1969 مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق، الذي منح 4 عضويات شرف لقيادات كوردية سابقة، و4 لقيادات من اتحاد الطلبة، كنت من بينهم، لما قدّموه من تضحيات وما لعبوه من أدوار في إطار الحركة الطلابية. واستمرّت هذه العلاقات حتى بعد بيان 11 آذار / مارس 1970، الذي اعتبرناه خطوة مهمة على صعيد الحل المنشود للقضية الكوردية.
وفي البداية كان المفاوضون الكورد مُمَثلين بجماعة المكتب السياسي طيب محمد طيب وفاضل رسول ملّا محمود (انتقل لاحقًا إلى القيادة المركزية للحزب الشيوعي، ثم إلى الحركة الإسلامية). وقد حاول أن يرتّب لقاءً بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني الإيراني (حدكا) بقيادة عبد الرحمن قاسملو والحكومة الإيرانية في عام 1988، إلّا أنه اغتيل غدراً في هذا الاجتماع، وبعد بيان 11 آذار أصبح ممثلو الحزب الديمقراطي الكوردستاني هم الذين يمثلون الكورد لدى الحكومة، وكنا على صلة بهم قبل ذلك، وخصوصاً عادل مراد وفرهاد عوني.
ثلاث أحداث بارزة عشتها خلال الفترة المنصرمة:
الأول: العريضة التي حملناها تأييداً لبيان 11 آذار / مارس، وحملت تواقيع نحو 3 آلاف شخص تأييداً للبيان، وكنّا قد بدأنا تجميع التواقيع في مذكرة موجهة إلى الرئيس أحمد حسن البكر والملّا مصطفى البارزاني، تدعوهما للجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصّل إلى حل سلمي للقضية الكوردية، تعزيزاً للوحدة الوطنية. وقد حملناها إلى الصحف الرسمية الثورة والجمهورية و«بغداد أوبزيرفر»، إضافة إلى الإذاعة والتلفزيون، كما أرسلت برقية باسمي واسم لؤي أبو التمّن تأييداً للبيان باسم الطلبة الديمقراطيين، نشرتها جريدة «النور» يوم 23 آذار / مارس 1970.
الثاني: مظاهرة تأييد بيان 11 آذار / مارس، التي شاركت فيها مجموعة من إدارة الحزب الشيوعي، وذلك يوم 21 آذار / مارس 1970، وقد تعرّضت المظاهرة للقمع، وقامت مجموعة بتفريقها من دون أن يكون لها صفة رسمية، وفيها علمت باغتيال محمد الخضري، القائد النقابي للمعلمين قبل يوم واحد.
الثالث: إشرافي على تأسيس اتحاد الطلبة العام في كوردستان بعد بيان 11 آذار / مارس 1970، وذلك في المؤتمر الذي انعقد في أربيل، وقد حضره 37 مندوباً من جامعة السليمانية وجامعة الموصل ومن معاهد وثانويات أربيل وكركوك وغيرها، وكنت قد التقيت بفاتح رسول (أبو أسوز) من قيادة الإقليم، الذي كلّف أحد رفاق الإقليم (ملّا بكر) لمرافقتي، ونقلني إلى مكان السكن منعم العطار، أحد أبرز الناشطين في أربيل، واختيرت قيادة للاتحاد الوليد ضمن إطار اتحاد الطلبة مع خصوصية استقلالية تتعلّق بكوردستان في ظروف ما بعد 11 آذار / مارس، حيث تم ترشيح مالك حسن، الذي كان قد انتسب إلى جامعة السليمانية وسبق له أن عمل في قيادة اتحاد الطلبة في أواخر الستينيات.
في الخارج كنت أنسّق مع طارق عقراوي، هو بصفته رئيساً لجمعية الطلبة الكورد في أوروبا، وأنا بصفتي رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين، بالإضافة إلى العلاقة المميزة مع السفير العراقي في براغ محسن دزئي.
وحين حصل الافتراق بين الحركة الكوردية والحكومة العراقية، واندفع بعض رفاقنا، كنت من أشد المتحفّظين، بما فيها حين أقدموا مع الحكومة العراقية لشق جمعية الطلبة الكورد لاعتبارات سياسية، وكان رأيي أنه لا ينبغي القيام بمثل تلك الخطوة مهنياً، لأن الأمر خارج دائرة السياسة واختلافاتها، واعتبرت التصعيد ضدّ الشعب الكوردي وقصف مناطق كوردستان، إنما يضرّ بالوحدة الوطنية، ويلحق أفدح الأضرار بالحركة الوطنية ومستقبلها، لذلك نظرت بعين النقد إلى محاولات الحكومة توظيف بعض خلافاتنا مع الحركة الكوردية لصالحها، وأسفت لانجرار البعض في هذا الاتجاه، لاسيّما بضم بعض العراقيين إلى جمعية الطلبة الكورد المنشقة، بزعم أنهم من أصول كوردية، وهو ما لقي تهكّم وسخرية البعض، وهكذا كنت أغرّد خارج السرب، إيماناً مني بوحدة المنظمات المهنية، وقناعتي بحقوق الشعب الكوردي. وكم كنت متألماً لحمل السلاح من جانب بعض رفاقنا تعاوناً مع الحكومة ضدّ الحركة الكوردية.
كنتُ أنظر من خلال دراستي القانونية إلى اتفاقية 6 آذار / مارس 1975، والمقصود بذلك «اتفاقية الجزائر»، التي وقّعها شاه إيران محمد رضا بهلوي مع نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، باعتبارها اتفاقية غير متكافئة، بل ومجحفة، ألحقت أضراراً بحقوق العراق في الماء واليابسة، فضلاً عن المستقبل، وهو ما تضمّنه كتابي «النزاع العراقي – الإيراني» (1981). وقد أشرت إلى ذلك في مناسبات مختلفة.
وفي الثمانينات، كانت علاقتي متميّزة بالحركة الكوردية في الشام بحكم كوني مسؤول العلاقات في الحزب الشيوعي، ولاسيّما مع غازي الزيباري وآزاد برواري، ومن الحزب الاشتراكي محمود عثمان وعدنان المفتي وعادل مراد وعبد الخالق زنكنة، ومن الاتحاد الوطني الكوردستاني مع عبد الرزاق الفيلي، وكان كلما يأتي مسعود بارزاني، أو جلال طالباني إلى دمشق كنت ألتقيهما، ولاسيّما خلال زيارتهما للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي جواهري، كما التقيت رسول مامند أكثر من مرّة.
وكذلك كنّا ننسّق في المؤتمرات واللقاءات في سوريا وخارجها، وكنت قد كتبت عدداً من الدراسات والأبحاث عن القضية الكوردية، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، «الحرب العراقية - الإيرانية والقضية الكوردية»، و«ضوء حول القضية الكوردية» من خلال أطروحة ماجد عبد الرضا لنيل الدكتوراه، ومن يراجع مجلات «الهدف» و«الحريّة» و«نضال الشعب» الفلسطينية وجريدة «تشرين» السورية و«السفير» و« الحقيقة» ومجلة «الدنيا» اللبنانية، سيجد الكثير منها.
لندن والحوار العربي - الكوردي
في فترة التسعينات، عملت على تنظيم أول حوار عربي - كوردي (1992)، حيث انتقلت إلى لندن حينها، وما يزال العديد من الشخصيات الكوردية تتذكّر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العلاقات العربية - الكوردية، والذي تمّ البناء عليه، خصوصاً حين دعوت 50 مثقفاً نصفهم من الكورد والنصف الآخر من العرب، لحوار حول القضايا التي ما تزال مطروحة للنقاش، وأقصد بذلك الهويّة والمواطنة المتكافئة والمتساوية، والحكم الذاتي، والفيدرالية، والكونفدرالية، وحق إقامة دولة مستقلة، وفقًا لمبدأ حق تقرير المصير، والأمر يتعلّق باختيار اللحظة التاريخية مراعاةً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ووحدة النضال العربي - الكوردي.
وألقيت محاضرة عن القضية الكوردية ومبدأ حق تقرير المصير وسط تجمّع حاشد في مركز آل البيت الإسلامي، الذي يديره العلامة السيد محمد بحر العلوم، وباستضافة كريمة منه، ومحاضرة أخرى في «ديوان الكوفة غاليري» عن تهجير الكورد الفيليين في ضوء القانون الدولي.
وكان لي شرف كتابة أول نص يتعلّق بالمعارضة العراقية (في مؤتمر فيينا 1992)، الذي ثبّت حق تقرير المصير للشعب الكوردي في إطار برنامج ورؤية شاملتين لنظام الحكم المنشود في العراق، ويعتبر مؤتمر صلاح الدين (التمهيدي) في أيلول / سبتمبر 1992، والعام (الموحد) في تشرين الثاني / نوفمبر - كانون الأول / ديسمبر 1992)، استمراراً لمؤتمر فيينا، علماً أن العديد من الذين شاركوا في هذه المؤتمرات، ولاسيّما من الإسلاميين والقوميين العرب، لم يكونوا يؤمنون ﺑـ«مبدأ حق تقرير المصير»، حيث وردت العديد من الاعتراضات عليه وشكّل عدد منهم وفداً لمقابلة مام جلال طالباني، الذي أخرج قلمه الأخضر ليضيف «دون الانفصال»، وذلك بهدف إقناعهم.
وكنت مع أول تجربة كوردية فعلية للاستقلال الذاتي، تلك التي بدأت في نهاية عام 1991، حين سحبت الحكومة أجهزتها الإدارية والمالية من المنطقة، معتقدة أن لا أحد يمكنه ملء الفراغ الذي تركته، بما فيها الحركة الكوردية، لكن الأخيرة أخذت على عاتقها هذه المسؤولية، وتحرّكت وفقاً للقرار 688 الصادر عن مجلس الأمن في 5 نيسان / أبريل 1991، الذي صدر بعد هزيمة القوات العراقية، إثر غزو الكويت.
والقرار 688 يتعلّق بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية في المنطقة الكوردية وبقية مناطق العراق. وكنت قد أطلقت عليه اسم القرار اليتيم والتائه والمنسي، لأن لا أحد يسأل عنه، إسوة بالقرارات الأخرى المجحفة والمذلّة، التي تصرّ الولايات المتحدة على تطبيقها بالكامل، لاسيّما القرارات اللّاإنسانية الخاصة بالحصار الدولي الجائر، علماً أن جميع القرارات الأممية صدرت ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات، باستثناء القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان، وتلك إحدى مفارقات الطغيان الدولي.
كنت وما زلت مع تجربة كوردية ناجحة بسدّ الثغرات ومعالجة النواقص والبحث في سبل تعزيزها، بالتخلّص من الفساد والمحاصصة واعتماد الشفافية وتداول السلطة سلمياً، وبالتأكيد على احترام حقوق الإنسان سبيلاً للتنمية المستدامة، المعيار الأساس للتقدّم الحقيقي، ويتطلّب الأمر تأسيس بنية تحتية متينة، والتفاهم مع بغداد كي لا تظلّ الأمور متأرجحة أو ضبابية، وذلك بأخذ المصالح الوطنية العليا بنظر الاعتبار، خصوصاً بترسيخ التجربة والاستفادة من الظروف الموضوعية لتطويرها.
عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت