طبيعة صامتة
طبيعة صامتة
September 27, 2024

10/4/1983 - بيانه

في الصباح الباكر أكتب الآن بين شجرتي لوز وأسمع حولي زقزقة العصافير المتصلة. قبل أيام قليلة انزاح الثلج عن هذا السهل المعلق عالياً في الفضاء وبدأت تتفتح البراعم والأوراق وتويجات الورد نافضة عنها غطاء من الوبر والصمغ.

إلى جانبي شجرة اللوز تفتحت أزهارها قبل أوراقها.. بيضاء أو بنفسجية مشعّة. جمال لا نظير له إلا في الإعلانات. في متر واحد من الأرض تحت قدمي يوجد أكثر من ثلاثين نوعاً من النبات البري. أحسّ إيقاع الحياة بعد ذوبان الثلج يدبّ في هذه الأرض حرارة وماء وصمغاً وحامضاً. يدب بإيقاع بطيء، لكنه عنيد ويتسرب إلى كل شيء.. من جذور الشجر وشعيراتها إلى الثمار الكامنة. يتسرّب إلى نباتات منحنية لم ترفع تويجاتها بعد من الأرض وتكشف تلك الخضرة الطرية الآسرة.

أمامي مباشرة تلّة منسرحة بتناسق فوقها شجرتا بلوط متقابلتان كعاشقين وبينهما مقبرة حجرية.. هذه الشواهد الحجرية المصطفة تحت ظلال الشجرتين تضمّ قتلى معارك وأجداد ماتوا في بيوتهم. يستقرون الآن في سكون عجيب في هذه الأكمة العالية الشديدة الخضرة والسكون. أسمع فوقهم ما يشبه هديل حمامة. ما أشد سكون هؤلاء الموتى.. لا يدرون ماذا حلّ بالمكان بعدهم فقد أصبحوا الآن خارج الزمان والمكان.

يخيل إليّ وأنا جالس هنا فوق جذع شجرة عتيقة أنني دخلت وحيداً في فردوس مفقود.. لمسات الأنسام خفيفة ومباركة في هذه الجدران الحجرية التي درّجت الجبل وفتحت فيه السواقي. ليست هذه لمسات الإنسان، إنما لمسات ملائكة عملوا وذهبوا من دون أن ينتظروا أجراً وما أرادوا أن يراهم أحد وهم يعملون ويمضون في طريقهم. لقد تركوا هذا الفردوس لنفس مستكشفة تواقة تريد أن ترى وتستريح.

خلف هذا السياج تقع بيوت هؤلاء الملائكة.. إنهم سكان القرية الذين بترت حياتهم الساكنة وانتزعوا من فردوسهم هذا في ليلة المجزرة. حوّمت في سماء القرية نسور دواية من حديد معتم: السمتيات! ملأت سماء القرية وأحاطتها ومن رياحها العاتية انحنت الأشجار كأن إعصاراً قد مسها وأحناها. وحتى قبل أن تحط على الأرض أطل من بوابات السمتيات مغاوير معلقون ممسكون برشاشاتهم ومهيأون لتدمير كل ما يتحرك.. ارتفع الصراخ في القرية، صراخ الأطفال والنساء يعلو صراخ الرجل الذي يريد أن يهدأ فيستفيض مزيداً من الصراخ.

وفي ذلك اليوم المشؤوم الذي لن يُنسى، انتُزِع سكان هذه القرية من بيوتهم وهجروا إلى مكان لا يعرفونه، وفوق هذه الجنة الهادئة زرعت ربيئة في مكان تلك القرية. لقد أخذنا مكان الربيئة القديمة وبحثنا في ركام البيوت المهدمة فوجدنا أشياء أليفة نسيت في حمأة الرعب والعجالة: مغزل، صحون، جرة من فخار، مهد هزاز لطفل. إنها بقايا حياة انتزعت من جذورها بقسوة لا حدود لها، وبقي الأموات هنا تحت هاتين الشجرتين، وحيدين تقتلهم الوحدة، شهوداً على جريمة عاجزين عن النطق.

لقد آلمتهم الوحدة والجريمة.. لكن ما آلمهم أكثر أن أحداً لا يسمع شهادتهم، لا أحد يصغي لما يقولونه غير هذه الأرض التي تأخذ كلماتهم وترشها بين ذرات التراب ألماً متصلاً لجوجاً كألم ولادة ما تزال بعيدة.


زهير الجزائري

كاتب وروائي عراقي 


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved