كانت تنتابني مشاعر خاصة وفريدة من نوعها وأنا أسير - مع ثلة من السياسيين والمثقفين - بخطى متأنية نحو قاعة سينما «إمباير» في مركز تسوق «فاملي مول» في أربيل، حيث كنا تواقين لمشاهدة فيلم «إخفاء صدام حسين». وبينما كنت أتجه نحو القاعة، كانت ذكريات الفظائع التي اقترفها الدكتاتور تحضرني ولا تفارق مخيلتي، ولاسيما تلك الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب الكوردي، من القتل والتشريد وعمليات الأنفال والهجمات بالأسلحة الكيميائية المحظورة، إلى الترحيل والتعريب والعشرات من الجرائم الأخرى التي تشمئز منها النفوس وتقشعر منها الأبدان.
بينما كنت أقترب من قاعة السينما شيئاً فشيئاً، كانت ذاكرتي تعود بي إلى الوراء لتذكرني بطفولتي، عندما كنت في الخامسة أو السادسة من العمر أترقب مع والدتي وإخوتي عودة والدي، ولكن تلك اللحظة التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر لم تأتِ ولم يعد والدي إلى اليوم، فقد حرمنا صدام ونظامه القمعي من رؤيته مجدداً، بل حرمونا حتى من أن يكون له قبر نزوره.
كان الأمل يحدوني أن يذكّر هذا الفيلم العالم بالفظائع والمواجع التي عاشها شعبنا، وأن يحمل في ثناياه رسالة واضحة ومعبرة وذات مغزى ودلالات تُذكّر الحكام الطغاة بأن النهاية الحتمية لكل دكتاتور متسلط هي السقوط المدوي، وأن يعيد الفيلم من خلال أحداثه إلى ذاكرة المشاهدين قصة فرعون الذي ترك كل ما كان يملك من ثروات وقصور وزروع ومقام كريم في أقل من غمضة عين.
ولكن بعد مشاهدة الفيلم أستطيع القول بأني قد تفاجئت وأصبت بدهشة، إذ لم يكن سيناريو الفيلم كما كنت أتوقع على الإطلاق، لاسيما أن المخرج كان كوردياً.
وسأحاول فيما يأتي من سطور أن أسجل انطباعاتي وملاحظاتي الشخصية على هذا العمل الفني:
- ليس من المستبعد أن يعد هذا الفيلم محظوراً في العراق وأن يمنع من العرض، إذ قد يكون الفيلم في بعض مشاهده مخالفاً للمادة السابعة من الدستور. فمثلاً يروي علاء نامق - وهو المزارع الذي أخفى صدام وهو شاهد العيان الذي يسرد الأحداث في الفيلم - يروي أن صدام حسين رفض رفضاً قاطعاً التفاوض مع الأمريكيين، وقال كيف أفاوض على تسليم العراق، وأنه عارض بشدة تلك الفكرة مع أنها كانت قد تمهد الطريق لخلاصه ونجاته!! فقد تفسر هذه الرواية على أنها ترويج لصدام وتمجيد له ولحزب البعث الذي كان يترأسه. وهذا الأمر ممنوع ومحظور دستورياً.
- إن هذا الفيلم من شأنه أن يجرح مشاعر الآلاف من ذوي ضحايا النظام البائد، لأن فيه جملة مشاهد تعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة على تلميع صورة الدكتاتور. فبدلاً من أن يحمل هذا العمل الفني في طياته إدانةً صارخةً لجرائم صدام حسين، لوحظ أن فيه مشاهد يمكن أن تُفسر على أنها محاولة لإظهار الطاغية في صورة قد تجعل المشاهدين غير الملمين بحقيقته يتعاطفون معه ويقفون في صفه.
- من المتوقع أن تثور عواطف وأحاسيس مؤيدي حزب البعث البائد ومحبي الطاغية صدام بمشاهدة هذا الفيلم، لأن طريقة سرد علاء نامق للأحداث تساعد على ذلك، ولأن المخرج الكوردي أيضاً هو الآخر لم يبذل أدنى جهد لإظهار صدام حسين في صورته الحقيقية ولم يكن له أيّ دور في ذلك.
- أن تؤخذ الجوانب المادية بالحسبان في إنتاج الفيلم أمر طبيعي وحق مشروع، ولكن ذلك يجب ألا يكون على حساب الحقائق. فالمخرج في سعيه لإنتاج فيلم ذي جودة عالية وجاذبية جماهيرية، يجب ألا يغيب عن باله أن الحقائق التاريخية لا يجوز التضحية بها من أجل نجاح الفيلم تجارياً. كان الأحرى بالمخرج أن يستثمر هذه الفرصة السانحة للتعريف بالقضية الكوردية في العالم العربي والغربي، ولتقديم صورة أكثر وضوحاً عن معاناة الشعب الكوردي والشعب العراقي بصورة عامة في تلك الحقبة التي حكمهم فيها صدام حسين بالحديد والنار، إذ من المتوقع أن يتوافد العديد من المشاهدين من مختلف دول العالم على دور السينما لمشاهدة هذا الفيلم.
- بالتوازي مع سرد قصة اختباء صدام حسين، كان من المفترض على المشرفين على إنتاج هذا الفيلم، أن يعملوا على تعريف الجيل الجديد - خاصة في إقليم كوردستان - وتوعيتهم بشأن تفاصيل تلك الحقبة المظلمة وما جرى فيها من أحداث دامية ومآسٍ وتراجيديات، حتى يعايشوا تلك الأجواء التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، ويدركوا ما قاسوه من تهميش وقمع واضطهاد. كل ذلك من أجل أن يستشعروا قيمة الحرية التي يتمتعون بها اليوم ويشموا نسيمها وعبقها، ولتعزيز الحس القومي والوطني لديهم، وتعميق ارتباطهم بإقليمهم وبقضيتهم العادلة.
- كان على المخرج الكوردي أن يعرض الكثير من تلك الجرائم التي اقترفها صدام حسين وزبانيته، لا أن يكتفي بعرض بعض اللقطات السريعة لشهداء حلبجة وقمع الشيعة، بحجة أن الفيلم في مجمله عبارة عن رواية علاء نامق للأحداث وأنه مقيد بما يسرده وملتزم به ولا يخرج في هذا العمل عن هذا الإطار، إذ أن المخرج يملك صلاحيات كثيرة وكان بمقدوره أن يفعل ذلك لو أراد.
وفي الختام أقترح على وزارة الثقافة والجهات ذات العلاقة أن تكون الموافقة على بث الفيلم في دور السينما في إقليم كوردستان مشروطاً بإعداد فيلم وثائقي قصير، يُعرض قبل فيلم «إخفاء صدام حسين»، ويكون عبارة عن مشاهد حقيقية للجرائم التي ارتكبها حزب البعث الفاشي وصدام حسين الدكتاتور بحق شعب إقليم كوردستان والشعب العراقي عموماً. إذ أن ذلك من شأنه أن يُقدم للمشاهدين الصورة الحقيقية لصدام ولحزبه المنحل من دون تزيين أو تلميع، ويقف حائلاً دون تحريف الحقائق التي هي واضحة وضوح الشمس في كبد السماء. ولا شك أن أي محاولة في سبيل التستر على جرائم الطاغية وحزبية ستكون أشبه بمحاولة من يريد حجب الشمس بغربال.
د.محمد شاكر
أستاذ جامعي