تعقيباً على ما قلناه في مقالنا في العدد السابق لهذه المجلة المعتبرة، نوّد أن نضيف أن للإعلامي وغير الإعلامي وللمعارض وغير المعارض أن ينتقد من دون هوادة أولئك المسؤولين الذين أكدت الوقائع إخلالهم بأمانة المسؤولية؛ ولكن ليس لأي منهم أو غيرهم المس بكرامة السلطة (الدولة) والوطن. أما ترويج الأفكار التي تؤسس لتماهي السلطة وإبليس فهو دعوة للعبثية والفوضوية.
ثم إن هنالك أمراً آخر لا بد من الالتفات إليه، وهو أن المعارضة قد تتبرأ من نتائج فشل الحكومة أو السلطة في تحقيق الخدمات المطلوبة للشعب لأسباب معروفة، مع أنها - أي المعارضة - قد تشارك ممثلي أحزاب السلطة في النشاط التشريعي الإيجابي من خلال ممثليها في البرلمان.
وهنالك إشكالية أخرى بل إشكاليات لا نتخلص من تعقيداتها من دون التسليم بالشرعية الدستورية التي تحميها محكمة عليا تحوز ثقة الجميع. وتنجم هذه الإشكالية عن القانون الذي مهمته تحديد الحريات، فمن أولى المفاهيم والمبادئ والحقوق الإنسانية التي أجمعت عليها المواثيق الدولية الإنسانية، الحرية التي بدونها لا كرامة ولا حياة. والمفروض أن من مهام السلطة والقوانين حماية هذه الحرية، ولكن هذه المهمة لا تنهي الصراع المستمر بين الحرية في فضائها الواسع وبين الحرية المحددة بقانون؛ فالقيد قيد وإن كان من ذهب. ولا يزال صراع المصالح في جميع المستويات هو الداء العضال المسبب للتوترات، وإن هذا الجدل سيستمر ولا تخفّ وطأته إلا بمبايعة الشرعية الدستورية والقوانين الدولية مرجعاً سياسياً وقانونياً قادراً على حسم هذه الإشكالات، ومع كل هذا صدق إمام فلاسفة الغرب في القرن الثامن عشر عمانوئيل كانت إذ قال «إن السلام الدائم متاح في المقابر فقط».
لقد اختارت الشعوبُ الديمقراطيةَ كأفضل نظام، لما توفره من حرية الفرد والمجتمع ومن تبادل سلمي للسلطة، وتكافؤ فرص لحظوظ الحصول على العلم والمال والمنزلة الاجتماعية والسياسية. لكن الديمقراطية لا تعني السعادة، أو نهاية الإشكاليات الإنسانية المستعصية التي قد يتطلب حسمها العقاب القاسي، فمن قوى الإنسان الغريزية الاستئثار والتعالي «إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى»، ولنا في مشهد الحياة المعاصرة والغابرة ألف شاهد وشاهد. فالجنرال حسني مبارك مثلاً تسلم السلطة بشكل قانوني، ولم يكن لشعبه معه إشكال لو غادر منصبه، بعد أن أنهى مدته حسب العرف الديمقراطي الذي لا يعترف باحتكار السلطة، فالسلطة للشعب، ولكنه رأى أن الشعب ساكت، فحَلا له الجو فسكت هو الآخر.
إن الشعوب لم تسترجع حريتها وإرادتها الحرة من القبضة الحديدية الغاشمة للظالمين الذين استعبدوها باسم الحق الإلهي، أو ملكوا أمرها كعبيد للأرض في النظام الإقطاعي والإمبراطوريات التي ساقت الشعوب إلى حروب مدمرة، في يوم أو يومين. فهذه الديمقراطية حصيلة نضال طويل وعصارة أفكار مستنيرة لعلماء ومفكرين في الغرب والشرق هالهم استيلاء الطغاة على عقول الناس وإراداتهم الحرة بقدر ما هالهم الاستيلاء على ما ينتجونه من خيرات.
ولكنها - أي الديمقراطية - ومثلها فلسفات وأفكار نيرة وأديان سماوية ووضعية، لم تستطع إنهاء الصراع والجدل داخل الإنسان فرداً أو مجتمعاً، دولة أو دولاً، وما استطاعت قلع الفساد في الأرض وإن دعت إليه، وعملت من أجله، «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس» الروم/41. ففي مجتمع التربية النبوية المزكاة في المدينة المنورة يُروى عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في حديث صحيح «أنه (صلى الله عليه وسلم) استعمل رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) على المنبر، وقال: ما بال العامل نبعثه، فيجيء فيقول، هذا لكم وهذا أهدي الي. أفلا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عاتقه، بعيرٌ له رغاء، أو بقرةٌ لها خوار، أو شاةٌ تبعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ مرتين».
ونقطة الصراع المركزية هي المصلحة الذاتية «قل كل يعمل على شاكلته» ولا يعدم الإنسان المفكر، عادة، التبرير المقنع لما يراه، فقد نتفق جميعاً من دون جدال على مفاهيم الدولة والديمقراطية والحرية وآليات الانتخاب والعدالة والمساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وحق الفرد البالغ في تقرير مصيره ولكن رؤانا المختلفة المحكومة بخلفيات أو عوامل غير مرئية تجعل الصراع مستمراً، ولكن شتان بين صراع باللكمات القاتلة وصراع بالكلمات التي تحمل أفكاراً مختلفة، لكنها مسالمة.
وهنا يصح القول الشائع «الاختلاف لا يفسد للود قضية»، وفي هذا المجال من الصراع يؤدي الوعي الحضاري والخبرة المكتسبة في ثمار التعاون البناء دوراً محورياً ما أحوجنا نحن الكورد إلى تفعيله لإنضاج الديمقراطية الوليدة التي حققناها نحن في إقليم كوردستان رغم الريح العاتية التي تلعب بسيقانها وأغصانها وتسعى لتهز أوراقها.
فما ذقنا نحن الكورد، لحد الآن، طعم الحرية بمذاقنا ولا طعم الاستقلال، فلا زلنا في مرمى الشهرستاني بـ«ملله ونحله»، يحرم علينا ما أحله الدستور العراقي الدائم من التصرف بما نملك لمصلحة الجميع، ولا زلنا محكومين بالإعدام بتهمة الانفصال رغم أن الاتصال الجبري بعيداً عن وحدة الهواجس هو الأجدر بالإعدام، وأن الانفصال الذي يوطد أواصر العلاقة التاريخية بين الجيرة هو أقوى صور الاتصال.
ومع ذلك يتمنى بعض من أبناء جلدتنا، من الذين خسروا في لعبة الديمقراطية في الجولة السابقة، وحُرِّموا غنم القيادة في هذه المرحلة، أن تسقط هذه التجربة الفتية في أتون الفوضى، وتحشر في زمر الأنظمة التي يهتف شعوبها بسقوطها؛ كما سقطت دولة بن علي التونسية وسقطت دولة حسني مبارك. ولو أحسنوا التقدير، وفكروا في حسن التدبير، ووجهوا طاقاتهم نحو التعاون في محاربة الفساد من دون تشنج لمزيد من رخاء الإقليم وأمنه وسمعته، لكان لهم شأن آخر أقرب إلى قلوب المتعاطفين مع هذه التجربة التي تمثل أمل الكورد وحلمهم في جميع أجزاء كوردستان.
ثم إن الذي جرى ويجري اليوم وفقاً للخارطة السياسية التي رسمتها نتائج انتخابات مشهودة بالنزاهة لن يكون نهاية التاريخ؛ بل نحن لا زلنا في بداية التاريخ، فقد يأتي اليوم الذي تحوز فيه المعارضة الحالية سلطة الأغلبية، وترسم خارطة سياسية جديدة والآخرون ينسحبون الى الصف الخلفي إلى حين.
هذه لعبة الديمقراطية. فلن يستطيع أي حزب الإبقاء على الأغلبية بشكل مستمر؛ ألم يخسر تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا في الانتخابات رغم قيادته الناجحة لانتصار الحلفاء على هتلر في الحرب العالمية الثانية؟ فمن طبيعة الناس عشق التغيير؛ ولو في الوجوه فقط، حتى لو كان الذين حكموا كانوا من أبطال الملاحم النضالية لتحرير الوطن. هذا ما نشهده في الديمقراطيات العريقة، وليس لدينا سحر يستثنينا من ذلك، والعرب يقولون «أكثر الناس لا يودون النظام، وقد يكسب نصفهم إن عدل».
ومهما تكن مبرراتهم للاحتجاجات منطقية في النظام الديمقراطي، فإن التقويم الموضوعي لها يستند إلى العواقب، وكانت عواقب ما فعلوا كوارث:
إحداها، ما أدت إليه من الإيحاء بصورة بشعة لتجربة الحكم الكوردي الأولى في هذا العصر بين المنظمات الدولية.
والثانية، إضعاف الإحساس بقبول الآخر؛ ولو لفترة انتخابية محدودة.
والثالثة، من العواقب الخطيرة لما جرى من رفض تعاون المعارضة مع سلطة الأغلبية أن هذا الرفض سيقابل برفض مماثل بحجة المعاملة بالمثل، فيما إذا فازت المعارضة في اللعبة القادمة الجديدة، وهذه هي الكوارث الاجتماعية التي لا أظن أن أحداً من السلطة أو المعارضة يريدها.
في بعض الأحيان يغالط المرء نفسه أو يستعير منهج النعامة في التعامل مع الواقع، ولا يريد أن يصدق ما هو مثبط، ففي تاريخنا النضالي القاسي صور تكررت في الثورات الكوردية المتتابعة تشهد أن دور الكورد أنفسهم في إفشالها أبرز وأكثر فاعلية، ونخشى أن تكون قصة السلطة والمعارضة في الفصل الجديد لنهضة الكورد وسعيهم للاستقلال المنشود صياغة للصراع القبلي الشخصي السلطوي القديم في صورة جديدة تقع، فكرة ومضموناً، في ما بعد الحداثة. وما هي إلا قدر لا نسأل الله أن يردّ قضاءه ولكنا نرجو منه سبحانه اللطف فيه.
د. محمد شريف
كاتب ومفكر كوردي، مختص في فلسفة القانون