عام 1947 وبعد انهيار جمهورية كوردستان في مهاباد، اختار القائد الراحل ملا مصطفى البارزاني 500 مقاتل ليبقوا معه في حال لم تقبل الحكومة العراقية شروطه للبقاء في العراق. كان البارزاني ورجاله ينتظرون قريباً من الحدود مع تركيا. انتهت المفاوضات بالفشل. ورسم القدر مساراً خاصاً لأولئك المقاتلين. فذهبوا مع قائدهم في رحلة تاريخية ملحمية على مدى ستين يوماً حتى وصلوا الاتحاد السوفييتي في 18 حزيران عام 1947. في اليوم التالي أعدمت السلطات العراقية أربعة من خيرة الضباط الكورد الذين ساهموا في جمهورية كوردستان. وكان الضباط الأربعة قد سلموا أنفسهم مع القافلة التي اختارت العودة إلى كوردستان مع الشيخ أحمد البارزاني. وبإعدام هؤلاء الضباط تبين أن قرار البارزاني بعد الاستسلام للسلطة العراقية كان قراراً صائباً جداً.
بعد وصول البارزاني مع مقاتليه بدأت رحلة معاناة جديدة انتهت بعد اثني عشر عاماً برحلة العودة على متن سفينة جورجيا، أو غروزيا، أقلتهم من ميناء أوديسا الأوكراني إلى ميناء البصرة.
ما يهمني في هذا المقال هو قصة عودة المقاتلين التي استغرقت حوالي خمسة عشر يوماً وليس هناك تفاصيل كثيرة عنها في الكتب التي ترصد تاريخ تلك الفترة.
لكن الوثائق السوفييتية كتبت تفاصيل مثيرة عن الموضوع وددت تقاسمها مع القراء هنا في هذا المقال.
تتحدث هذه الوثائق عن الإجراءات البيروقراطية التي كان لا بد منها لتيسير عودة هؤلاء المقاتلين خاصة أن الكثيرين منهم تزوجوا وأنجبوا أطفالاً وحصلوا على الجنسية السوفييتية. بناء على ذلك، أصدر المجلس الرئاسي الأعلى للسوفييت مرسوماً خاصاً في 18 آذار 1959.
ووفقاً لهذا المرسوم، فإن المواطنين السوفييت من القومية الكوردية الذين عاشوا في الاتحاد السوفييتي منذ عام 1947 ويريدون المغادرة إلى العراق للإقامة الدائمة، سوف يفقدون جنسيتهم السوفييتية منذ لحظة مغادرتهم. أما المواطنات السوفييتيات من القوميات غير الكوردية اللواتي تزوجن من الكورد وغادرن مع أزواجهن، فقد تم اعتبارهن فاقدات للجنسية السوفييتية أيضاً، في حال تقديم طلب فردي للتخلي عن الجنسية السوفييتية.
تذكر الوثائق، والوقائع التاريخية المعروفة أيضاً، أن المقاتلين قدموا إلى الاتحاد السوفييتي ومعظمهم أميون، أو في أحسن الأحوال لم يحصلوا على تعليم كافٍ. لكنهم عادوا بعد اثنتي عشرة سنة متخرجين من الجامعات بتخصصات مرموقة فكان بينهم مؤرخون، واقتصاديون، ومهندسون زراعيون، وبناة، وميكانيكيون، ومتخصصون في مجالات أخرى.
كانت المشكلة الأساسية تكمن في تجميع ذلك العدد الكبير (أكثر من 400 مقاتل و400 من النساء والأطفال) في نقطة واحدة لتيسير سفرهم مجتمعين وفي دفعة واحدة.
وكإجراء ضروري، قامت الجهات المسؤولة بأخذ تشتت المقاتلين وأسرهم في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي بعين الاعتبار. وبناءً على ذلك، تم تحديد نقاط التجمع في موسكو وقرية فريفسكي (المازار حالياً) في منطقة طشقند.
على هذا الأساس، تم إعداد جميع الوثائق الخاصة بالمغادرة لمجموعة الكورد ولجميع النساء السوفييتيات، في موسكو كنقطة أولى، وللذين يقيمون في أراضي جمهورية أوزبكستان، في طشقند كنقطة ثانية.
لم يكن هذا الموضوع سهلاً بل تطلب عملاً تحضيرياً كبيراً. فقد شمل إجراء محادثات مع الكورد وزوجاتهم في أماكن إقامتهم حول رغبتهم في العودة والسفر وطبيعة الوثائق المطلوبة. وتم إجراء الترتيبات اللازمة وتقديمها إلى اللجنة التنفيذية لاتحاد جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في الاتحاد السوفييتي (التي كانت معروفة اختصاراً بـ СОКК и КП СССР)، وشملت تلك الإجراءات ملء الاستمارات، وطلبات المغادرة، ونسخ شهادات الميلاد، وشهادات الزواج، وشهادات من أماكن العمل والإقامة، ومستندات أخرى.
تم إجراء المفاوضات والمراسلات وتوقيع الاتفاقيات مع المنظمات المعنية، وشاركت في الإعداد لتلك الرحلة كل من وزارة المالية في الاتحاد السوفييتي، ووزارة البحرية، ووزارة النقل، وصندوق العمل، وغيرها من المنظمات والهيئات المعنية.
وجرى إعداد مستندات خاصة للمغادرين، بما فيها قوائم العمل واستئجار فنادق، وإرسال رسائل وبرقيات توضيحية حول المغادرة إلى أماكن الإقامة. كما تم تنظيم الوثائق المطلوبة للمغادرة في المنظمات المعنية والحصول على تأشيرات الخروج.
عند الانتهاء من إعداد الوثائق المتعلقة بسفر المقاتلين وعائلاتهم، أرسلت إلى ميناء أوديسا البحري في الاتحاد السوفييتي، حيث كان من المقرر أن يتوجه المقاتلون منه إلى ميناء البصرة العراقي.
ولأجل تجميع المقاتلين وعائلاتهم في ميناء أوديسا في يوم واحد متفق عليه فقد بذلت الجهات المسؤولة جهوداً جبارة، إذ تمت عملية المغادرة إلى الميناء على مجموعتين، واحدة من طشقند والأخرى من موسكو. ومن طشقند، تم تنظيم إرسال المقاتلين بواسطة قطار خاص مزود بخدمات طبية ومطعم، برفقة موظفين من مجلس وزراء جمهورية أوزبكستان ولجنة الصليب الأحمر والهلال الأحمر. أما في موسكو، فقد تم استئجار خمس عربات ركاب، برفقة موظفين سوفييات.
ونظراً لأن جميع المغتربين كانوا يحملون كمية كبيرة من الأمتعة، تم استئجار عربة أمتعة واحدة لمجموعة موسكو وأربع عربات لمجموعة طشقند.
ومن ضمن المجموعة السوفييتية المرافقة للكورد العائدين على متن السفينة، كان هناك أيضاً رئيس وفد اللجنة التنفيذية، نيكولاي كونياخين، الذي ترك تقريراً مفصلاً عن الرحلة المثيرة التي استمرت 15 يوماً. (كونياخين ضابط روسي ولد عام 1914 وتوفي في موسكو عام 1977).
وصل القطاران القادمان من موسكو وطشقند، إلى أوديسا في 1 أبريل 1959. وبدأت عملية تحميل الأشخاص والأمتعة على السفينة فور وصول القطارات إلى الميناء وانتهت بحلول منتصف الليل. بعد بدء صعود الركاب إلى السفينة، تم عقد اجتماع بمناسبة مغادرة المقاتلين إلى وطنهم. وقد ألقيت كلمات ترحيبية في الاجتماع من قبل مجموعة من المسؤولين السوفييت، من بينهم ممثل الحزب الشيوعي السوفييتي، أ. أ. أوبيدينوف، ورئيس مجلس مدينة أوديسا، أ. ف. لادفيشينكو، وممثلو جمهورية العراق المعنيون بعودة الكورد، وممثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني السيد ميرحاج وشخصيات رسمية أخرى.
اختيرت السفينة جورجيا، أو غروزيا، التي كان اسمها سابقاً سوبيسكي، والتي بلغ طولها 155,8 متراً وعرضها أكثر من عشرين متراً، وارتفاعها ثمانية أمتار، من قبل إدارة البحر الأسود السوفييتية لتستوعب ذلك العدد الكبير من المسافرين. فقد كان استيعابها 840 مقعداً. وكانت السفينة دخلت الخدمة عام 1939 واستعملت كسفينة حربية. ثم بيعت إلى الاتحاد السوفييتي عام 1950 وتحول اسمها إلى جورجيا للعمل في البحر الأسود بين ميناءي أوديسا وباتومي.
لم تكن الأحوال الجوية مواتية لبدء الرحلة. ومع ذلك، فقد انطلقت السفينة من رصيف ميناء أوديسا متوجهة إلى الميناء العراقي في البصرة في تمام الساعة الثانية وخمسة وعشرين دقيقة من فجر 2 أبريل 1959.
جان دوست
شاعر وروائي ومترجم كوردي، صدر له العديد من الكتب والروايات، وترجم العديد من الروائع الكوردية إلى العربية