دير يتحول إلى مركز تنويري لإشاعة السلام
دير يتحول إلى مركز تنويري لإشاعة السلام
October 23, 2024

من يعرف الإيمان يعرف معنى الحب، ومن يعرف المعنى الحقيقي للحب ينشر الخير في كل مكان، ولعل هذا هو حال قس سويسري من أصل ألماني، فضل المغامرة والتحدي، حتى استقر به المقام في كنيسة تاريخية بقلب مدينة السليمانية في إقليم كوردستان، ليحولها إلى مركز إشعاع تنويري ومعرفي يخدم أبناء المنطقة على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم.

شاهد على جحيم داعش

إنه القس يانس، أو (جانز) بيتزولد Jens Petzold، الذي خدم 16 عاماً (1995 - 2010)، في سوريا بدير مار موسى الحبشي، المقام على ارتفاع 75 متراً فوق جبل «المدخن»، يبعد 20 كلم شرق بلدة «النبك» الواقعة في منتصف الطريق بين العاصمة دمشق ومدينة حمص، وكان شاهداً على جرائم تنظيم داعش الإرهابي، حتى أقنعه البطريرك لويس ساكو، مطران كركوك والسليمانية حينها، بالقدوم إلى مدينة السليمانية، عام 2011، حيث استقر في كنيسة مريم العذراء للكلدان، التي شيدت عام 1862، في حي صابونكران (الصابونجية) التاريخي، حيث يقطن المسلمون والمسيحيون واليهود جنباً إلى جنب، ويعد من بين أقدم أحياء السليمانية، قبل أن يهجره غالبية سكانه بمن فيهم المسيحيون، مثلما انتقل المركز الكنسي الرئيس في المدينة، إلى كنيسة مار يوسف، في حي «بختياري» الراقي وسط السليمانية.

الأب يانس أمام ايقونة مريم العذراء في قاعة القداس بالكنيسة القديمة

جماعة الخليل

وينتمي الأب يانس إلى جماعة أو مجتمع الخليل (نسبة إلى نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام).. ومجتمع الخليل، هو مجتمع مكرس للتقارب الإسلامي - المسيحي، والحوار بين الأديان، أسسه اليسوعي الإيطالي باولو دالأوليو ((Paolo Dall'Oglio‏ عام 1991، الذي اختطف من قبل مسلحي تنظيم داعش الإرهابي سنة 2013، بينما كان يفاوضهم لإطلاق سراح مجموعة من الكورد السوريين الذين اختطفهم التنظيم الظلامي، وما يزال مصيره مجهولاً حتى الآن.

ومنذ استقراره في دير السيدة العذراء (عليها السلام)، بدأ الأب يانس نشاطه التنويري المتعدد الاتجاهات، حيث حول الدير إلى مركز ثقافي ومعرفي ومهني، فضلاً عن مهامه الدينية التقليدية، في آن معاً.. فمن إقامة دورات لتعليم اللغة الكوردية للنازحين (مسيحيين ومسلمين وإيزيدين أغلبهم من أهالي المحافظات التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي)، إلى تلك الخاصة بتعليم اللغتين العربية والإنكليزية والدورات المهنية (أعمال الخياطة، النجارة، السباكة، الكهرباء، حاسبات...إلخ.)، إلى ورش عمل في مواضيع عامة مثل تقبل الآخر وثقافة السلام والتآخي والتاريخ والفلسفة وغيرها، وصولاً إلى إقامة فعاليات تشكيلية وحفلات موسيقية، وإصدار نشرات توعوية، فضلاً عن إقامة دورات أكاديمية للأشخاص غير القادرين على دخول الجامعات، وتشكيل فرقة مسرحية، هي فرقة صابونكران المسرحية، التي تمارس نشاطها منذ عام 2015 وحتى الآن.

دير ومركز تنويري

يقول القس السويسري، بلغة عربية ضعيفة تغلب عليها اللكنة السورية واستخدام المصطلحات الفرنسية، إن دير مريم العذراء، الشامخ وسط أزقة حي صابونكران الضيقة وأبنيتها المتداعية، بات «مركزاً تنويرياً وميداناً للحوار والثقافة والبحث وتعليم الخبرات»، ويشير إلى أن الدير «يحظى باهتمام خاص من غبطة البطريرك لويس ساكو والمطران يوسف توما لما له من قيمة تاريخية وتراثية».

ويضيف الأب يانس أن الدير «ينظم قرابة 120 مناسبة أو نشاط ديني أو ثقافي أو مهني سنوياً بمشاركة قرابة 600 من الأطفال والمراهقين والشباب من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات»، ويبين أن نشاط الدير «يهدف إلى إيجاد تواصل وتفاعل بين أفراد المجتمع المحلي وإكسابهم مهارات مضافة تمكنهم من العيش بسلام وكرامة وتقبل الآخر».

الكل سواسية في إقليم كوردستان

ويؤكد القس السويسري، على أن المسيحيين في إقليم كوردستان بعامة والسليمانية بخاصة «يشعرون براحة تامة ولا يعانون من أي تفرقة أو تمييز عن باقي الأهالي لأن الجهات المعنية تعامل الجميع على قدم المساواة»، ويلفت إلى أن ذلك «أسهم في إشاعة أجواء التآخي والسلام والاستقرار في الإقليم وتمكين الدير من ممارسة العمل بحرية».

ويتابع أن الدير «يحظى بدعم منظمات دولية فرنسية وألمانية ونمساوية وإيطالية فضلاً عن تبرعات الأهالي»، لكنه يستدرك شاكياً من «التمويل وقلة الإمكانيات وضيق المكان وقدمه، كعوامل ما تزال عقبات رئيسية تحول دون توسيع نشاطه».

ويريد الأب يانس، أن «يواصل الدير مهامه التنويرية وأن يتمكن من استكمال أعمال الترميم للحفاظ على هذا الرمز التراثي»، ويعرب عن أمله بأن «يستمر الدير في تلبية احتياجات الباحثين عن الثقافة والسلام والتآخي بين الأديان والطوائف بنحو تسوده روح الانفتاح والتعاون والمحبة». 

يُذكر أن دير مريم العذراء للكلدان في السليمانية، يتألف من عدة مبانٍ ومرافق قديمة وحديثة، متصلة ببعضها البعض بممرات، ويوجد فيه منزل للكاهن وآخر للرهبان، ومنزل للراهبات وأماكن للضيوف، بالإضافة إلى مساحات متعددة الاستخدامات كالدروس والاجتماعات والحفلات.. ويضم الدير مكتبة عامرة فيها قرابة 50 ألف كتاب.. وأنه تضرر خلال الحرب العالمية الأولى، لكن المجتمع الكلداني في السليمانية قام بأعمال الترميم والتحديث والتوسعة في الستينات من القرن الماضي، ما أدى إلى تعديل هيكله الأصلي بثلاثة صحون وأعمدة مركزية، كما تم تغيير السقف بإنشاء سقف معدني، ومن ثم أضيف له منظومة للطاقة الشمسية لتأمين تزويده بالكهرباء بصورة مستمرة.


باسل الخطيب

صحفي عراقي


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved