لعدة قرون، أبهرت قصة سفينة نوح العلماء والمؤمنين من مختلف الديانات، حيث ظهرت نظريات مختلفة حول المكان الذي استوت عليه السفينة. وعلى الرغم من أن جبل «جودي» في شمال كوردستان كان تقليدياً يُعتبر الاحتمال الأقوى لمكان رسو السفينة واستئناف الحياة بعد الطوفان، إلا أن العديد من الأمم والدول تعتبر بلدانها الموقع الفعلي لاستقرار سفينة نوح. وقد جمع باحث كردي مؤخراً بعض الأدلة الجديدة التي تشير إلى أن سفينة نوح قد استوت على جبل سفين في إقليم كوردستان.
الجيولوجي الكوردي سربست مجيد خوشناو، رئيس معهد الأحجار الكريمة في إقليم كوردستان، قام من خلال بحثه بجمع عدد من الأدلة التاريخية والجغرافية واللغوية لتقديم رؤية جديدة لموقع سفينة نوح. وأعلن أن السفينة التي تمثل بداية الحياة الجديدة بعد الطوفان، قد استقرت على جبل سفين في جنوب كوردستان.
وقد جمع سربست مجيد عدداً من الأدلة، مؤكداً أنه من الأفضل أن تقوم جامعات كوردستان وبالتعاون مع الجامعات الغربية بإجراء بحوث علمية لإثبات صحة هذه الأدلة. ومن أجل ذلك، يرى أنه لا بد من إجراء دراسة علمية مفصلة لبقايا تمثال قديم يقع حالياً عند سفح جبل سفين في بلدة شقلاوة (40 كم شمال شرق أربيل). ويعتقد أن التمثال يعود إلى آشور ناصربال الثاني، أحد الملوك الآشوريين الذين حكموا بلاد ما بين النهرين، ويشتبه في أن الجبل الذي وصل إليه هو جبل سفين، الذي أطلق عليه اسم جبل نسير.
في بحثه المنشور في مجلة جامعية بمحافظة أربيل، بدأ الجيولوجي الكوردي سربست مجيد بتقديم رأيه الجديد حول اسم جبل سفين، قائلاً إن الجبل كان يُعرف سابقاً بجبل «سفينة». وقد تم فرض هذا الاسم من قبل الجيش العربي الإسلامي عن طريق ترجمة اسم الجبل القديم إلى اللغة العربية، حيث كان يُسمى سابقاً بجبل «خاني» من قبل الملك سنحاريب (745 ق.م) ملك آشور.
وفي مقابلة مع «كوردستان بالعربي»، يقدم سربست مجيد مزيداً من المعلومات، حيث يقول: «ذهب جلجامش، الملك الأشهر لدولة أوروك السومرية، إلى جبل سفين في زيارته لنوح ليسأله عن سر الخلود. وبحسب السجلات الآشورية وملحمة جلجامش، فإن جبل سفين كان يُعرف باسم جبل نسير. وفيما بعد، في عهد سنحاريب، تم تغيير اسم الجبل إلى جبل كوينبي (الجنة) نسبةً إلى ثماره وخيراته وجماله، ثم تغير الاسم لاحقاً علی اعتبار أنه الموقع الذي استوت عليه سفينة نوح، وأصبح اسمه جبل خاني».
ويشير الباحث إلى أن كلمة «خاني» قد وردت في ملحمة جلجامش، حيث أمر الله أوتونباشتام (نوح) ببناء «خاني» أي بناء السفينة. وقد قام طه باقر ناصر (1912 -1984)، أحد أشهر علماء الآثار العرب، بترجمة ملحمة جلجامش من الأكادية إلى العربية، وقام بتحليل اللوحات الرياضية لبابل، واكتشف شفرات مملكة أشنونا القديمة التي يعود تاريخها إلى ما قبل حمورابي بنصف قرن. كما كان یعرف اللغات الآرامية والأكادية والسومرية، وكان يعتقد أن «خاني» تعني تمثال القصور والمباني. ولا تزال كلمة «خاني» تُستخدم في مناطق أربيل وضواحيها بمعنى هيكل البيت، ويبدو أن هذا مرتبط بالخلفية اللغوية التاريخية التي بقيت آثارها في هذه المنطقة، حيث تم ربط كلمة «خاني» بسفينة نوح كما ورد في وثائق سنحاريب التي ذكرت اسم جبال خاني بالقرب من أربيل وحول مياه نهر بستوره.
ووفقاً لتفسيرات هذا الباحث، فإن لغة سكان سفح جبل سفين الحالية متجذرة في اللغة التي كان يتحدث بها نوح وذريته. وعندما وصل الجيش العربي الإسلامي إلى المنطقة، سألوا عن أسماء المدن والجبال وكل شيء في هذه البيئة وترجموها إلى اللغة العربية. وكان في ذلك الحين يُطلق على الجبل اسم «خاني»، الذي كان يشير إلى تمثال (خاني) لسفينة نوح، ولأن الجبل كان مستقرا للسفينة، تمت ترجمة معنى الاسم إلى اللغة العربية ليُعرف بجبل «سفينة». لاحقاً، ونظراً لعدم وجود التاء المربوطة النهائية في اللغة الكوردية وتسهیلاً لنطق الكلمة من قبل السكان، تحول الاسم من «سفينة» إلى «سفين».
وعن كلمة «جودي» المذكورة في القرآن، على أنها المكان الذي استقرت فيه سفينة نوح. یقول الباحث الكوردي إنه لا توجد إشارة واضحة إلى مكان محدد في هذا النص، ويعتقد بأن الاسم مرتبط بخصائص المكان وليس باسمه. ويضيف «إن كلمة جودي في اللغة العربية مشتقة من جود، ومعناها الخير والبركة، ولهذا السبب نرى أن الحرف الأخيرة (ي) في الكلمة مشددة». أما بالنسبة لارتباط جودي بكلمة «جوتي» أو «جودي» كأمة حكمت شمال بلاد ما بين النهرين لفترة من الزمن، فيقول إنه احتمال قوي آخر على ان يكون موقع سفينة نوح قد يكون في منطقة بلاد ما بين النهرين، وأن اسم «جودي» جاء من إقليم الجوتيين أو الجوديين، حيث يتم نطق حرف (گ) الكوردي في اللغة العربية كحرف (ج).
تمثال آشور ناصربال الثاني واللغز الأعظم
على مدى عقود، هنالك بقايا تمثال حجري قديم، باقیة عند سفح جبل سفين من دون أن يتحدث عنه أحد أو يعرف عنه أو يقوم بدراسته. ومع ذلك، ففي سياق بحثه عن مستقر سفينة نوح، توصل سربست مجيد إلى استنتاج مفاده أن بقايا التمثال عند سفح جبل سفين تعود إلى آشور ناصربال الثاني، الجد الأكبر لسنحاريب. وفي هذا الصدد، ووفقاً لسجلات سنحاريب، يقدم الباحث تفاصيل حول ذلك، ويقول: «عندما وصل آشور ناصربال الثاني لأول مرة إلى منطقة شقلاوة، مر عبر مضيق كيرور (المعروف الآن بمضيق كوري، على بعد 35 كلم شمال شرقي أربيل)، وكان جيشه، في ساعات الصباح يهاجم من منطقة شمامك (20 كم جنوب أربيل) اللولوبیین على جبل نسير (جبل سفين). وفي المساء، كانوا يعودون إلى منطقة شمامك».
يعتبر الباحث أن رواية آشور ناصربال الثاني تقدم دليلاً إضافياً على أن جبل سفين كان مرسى ومستقر سفينة نوح، وليس جبل الجودي. ولأن جبل الجودي يقع على بعد حوالي 300 كيلومتر شمال غرب أربيل، كان من المستحيل على الجيش في ذلك الزمان أن يعبر هذه المسافة الطويلة في الصباح ليقاتل ثم يعود إلى ثكناته مساءً.
یتحدث سربست مجيد أيضاً عن الطريقة التي وصف بها آشور ناصربال الثاني جبل نسير، مشيراً إلى أنه عندما تنظر إلى جبل سفين من موقع بقایا التمثال، سترى حرفیاً المشهد الذي وصفه آشور ناصربال الثاني، حيث ترتفع قمة الجبل شامخة نحو السماء.
دليل آخر يقدمه الباحث هو أن آشور ناصربال الثاني قال إنه عندما استولی علی جبل نسير، قام بسلخ الملك ببە ابن بابو، ملك اللولوب، وهو حي، وقتل 270 رجلاً من جيشه. بعد ذلك، بنى تلة من جماجمهم، وأقام تمثالاً لنفسه على ينابيع الجبل ومياهه، ونقش عليه إنجازاته ومفاخره.
من هنا، يعود الباحث إلى شقلاوة وسفوح جبل سفين، ويتحدث عن نبع «دنجارة» (دەنگارە – بالكوردية)، الذي يتدفق في شقلاوة منذ مئات السنين. ويعتقد أن بقايا التمثال بالقرب من النبع لآشور ناصربال الثاني، الذي أقام لنفسه التمثال. وبقي التمثال سليماً حتى الآن، يواجه مدينة أربيل، مما يشير إلى أنه كان يواجه عشتار، وهذا كان أحد شروط الآشوريين، حيث كانت جميع تماثيلهم تواجه عشتار دائماً. ولكن نظراً لأن التمثال لم يكن مصنوعاً من حجر الغرانيت، بل من حجر المنطقة، فإن شكله أصبح مشوهاً للغاية.
وقد تم حفر كهف خلف التمثال لإشعال النار، ومحيط التمثال مغطى بالطين، إلا أن جزءاً كبيراً من هذا الطين قد اختفى، ولم يتبقَ منه سوى جزء صغير تحت التمثال. وعندما أخذ سربست مجيد عينات من الطين والحجر المستخدم في بناء التمثال وأجرى عليهما تحليلات في جامعة سوران (100 كلم شمال شرق أربيل)، وجد أن تركيبهما الكيميائي يختلف عن الطين والصخور الموجودة في المنطقة حالياً. لأن الطين قد تم حرقه وخلطه بمواد أخرى قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام. كما تختلف كمية الكوارتز والدولميت في الطين المستخدم في التمثال عما هو موجود حالياً في المنطقة.
يرى الباحث الكوردي أنه من الضروري في هذه المرحلة، أن تقوم حكومة إقليم كوردستان بإیقاف جميع المشاريع الاستثمارية والإنشائية على جبل سفين وسفوحه، لحين إجراء بحوث علمية مكثفة قد تؤكد فرضية هبوط سفينة نوح هناك. ويعتقد أن هذا الاكتشاف يمكن أن يكون بوابة جديدة لجذب السياح من جميع أنحاء العالم إلى إقليم كوردستان. كما يدعو إلى إجراء دراسة علمية دقيقة من قبل إحدى الجامعات العالمية بالاشتراك مع جامعات إقليم كوردستان للتمثال الذي يعتقد أنه لآشور ناصربال الثاني. ويضيف سربست مجيد أيضاً إنه إذا تم إثبات أن التمثال يعود لآشور ناصربال الثاني، فلن يبقى شك في أن سفينة نوح قد استوت واستقرت على جبل سفين، وليس في أي مكان آخر.
أما بالنسبة لجبل الجودي، الذي كان يُعتبر تقليدياً ومنذ القدم مستقراً لسفينة نوح، فينفي سربست مجيد وجود أي بقايا لسفينة نوح هناك، ویؤكد أنه ليس هناك أي دلیل لتعيين الموقع الذي استقر عليه تلك السفينة، واصفاً المصادر التي تتكلم عن آثار السفينة وتشير إلى بقاياها، بأنها «بعيدة عن الصواب». ويؤكد أن تاريخ سفينة نوح يعود إلى أكثر من عشرة آلاف عام، ولا يوجد نوع من الخشب يمكن أن يبقى ويدوم لهذه الفترة الزمنية الطويلة.
لذلك، يعتقد الباحث أن أي تحقيق أو بحث أثري حول سفينة نوح، لا يمكن أن يكون مبنياً على أسس صحيحة، ولا يمكن إجراء دراسات علمية أثرية لسفينة نوح. ويشير إلى أن أقصى ما توصل إليه علم الآثار حتى الآن يعود إلى زمن السومريين، بينما يُعتقد أن حدث سفينة نوح قد وقع قبل عهد السومريين بقرون على أقل تقدير.
ريبند سعدالله
صحفي ومصور كوردي وعضو في الاتحاد الفنلندي للصحفيين