تقع القلعة في مركز المدینة، وتجتمع مئات الآلاف من الأشخاص حول هذه القلعة الدائرية شبه الخالية باستثناء علم كبير لكوردستان في مركز القلعة، يرفرف ويعلو شامخاً نحو السماء. يبلغ ارتفاع القلعة 32 متراً ومساحتها الإجمالية 102 ألف متر مربع. أصدرت السلطات المحلية في كوردستان أوامر بإخلاء القلعة من سكانها، بهدف ترميمها وتجديدها، مما أدى إلى إجلاء حوالي 500 منزل ومسكن كانت مأهولة في ذلك الوقت.
لم يتبقَ في القلعة إلا منزل واحد بالقرب من البوابة الجنوبية، تبلغ مساحته أقل من 100 متر مربع. وتم استثناء هذا المنزل الصغير، ليصبح الشاهد الأوحد على بقاء القلعة مأهولة بالسكان طيلة تاريخها الممتد لآلاف السنين. وتعيش عائلة ريبوار محمد وزوجته نازنين قادر وأطفالهما الأربعة في هذا المنزل الوحيد.
قال ريبوار، الذي ولد عام 1986 في القلعة، لـ«كوردستان كرونيكل»: «أنا الذي نسجت كل ذكريات طفولتي وشبابي في القلعة، لم أتخيل يوماً أنني سأعيش في القلعة وحدي، بعيداً عن الأشخاص الذين عرفتهم طوال حياتي».
بدأت قصة عائلة ريبوار مع القلعة عندما انتقل والداه وذووه إلى أربيل لأول مرة في عام 1978، بعد أن تركوا قريتي هرمك وميرگسَر في وادي باليسان (75 كلم شمال أربيل). واستقروا حينها بسبب الفقر في خرابة مهجورة داخل القلعة، مقابل إيجار شهري قدره 10 دنانير.
وعلى مدى ثمانية عشر عاماً، عاش ريبوار وعائلته في هذا المنزل الصغير، الذي يتألف من غرفتين متواضعتين منخفضتي الارتفاع في إحدى زوايا القلعة، ويربط بين الغرفتين فناء صغير تم بناؤه من الزجاج حديثاً. غرفة للضيوف والنوم وجلسة العائلة، مزينة بالزهور الطبيعية والصناعية في مزهريات قديمة الطراز، بالإضافة الى مسبحة معلقة في زاوية الغرفة بجوار النافذة. وهنالك عدة نسخ من القرآن الكريم والكتب الدينية، مع ثلاث أو أربع زجاجات عطر، في خزانة زجاجية عمودية مربعة الشكل تقبع في الزاوية نفسها. والغرفة الأخرى هي عبارة عن مطبخ فيها الأدوات المنزلية.
العزلة عن المجتمع
«عشت حياة بسيطة وسعيدة حتى سن العشرين من عمري. بالنسبة لي، لم تكن القلعة عبارة عن ثلاثة أحياء وعشرات الشوارع فقط، بل كانت بمثابة منزلٍ كبيرٍ للجميع». هكذا يصف ريبوار القلعة في ذلك الوقت الذي كانت الحياة الاجتماعية فيه تتمتع باختلاط كبير بين الناس، إذ كانوا يعيشون معاً في وئام مثل عائلة كبيرة واحدة. لكن عام 2006 تغيّر كل شيء فجأة. وصدر قرار بإخلاء القلعة التي كانت مرتعاً لذكريات آلاف الأشخاص. ومن بين ما مجموعه 840 عائلة كانت تعيش في القلعة حينها، تم اختيار عائلة ريبوار لتبقى وتعيش بمفردها في المدينة التاريخية التي يبلغ عمرها ستة آلاف عام.
تعتبر قلعة أربيل من أندر القلاع في العالم، والتي بقيت مأهولة بالسكان منذ العصر السومري. في عام 2014، أدرجتها منظمة اليونيسكو رسمياً كواحدة من أقدم القلاع الحضارية المأهولة في موقع التراث العالمي. ولكن حكومة إقليم كوردستان قامت منذ 23 تشرين الثاني 2006، بإخلاء القلعة لأغراض التجديد وإعادة الترمیم والقيام بالحفريات الأثرية حيث قامت بنقل جميع السكان إلى حي جديد. وأبقت على عائلة واحدة فقط هناك بصيغة مؤقتة. وذلك للحفاظ على استمرارية الحياة في هذا الموقع التاريخي وعلى طابع هذه القلعة التي ظلت مأهولة بالسكان من دون انقطاع. إلا أن هذا الوضع المؤقت استمر قرابة 18 عاماً حتى الآن. وقد أدى ذلك إلى اعتياد عائلة من المدينة على هذا النمط من العيش وحيدة بعيدة عن المجتمع والرخاء، كما يقول ريبوار.
ويضيف ريبوار إنه قد يكون من الصعب عليهم التكيّف مع الحياة في المجتمع مرة أخرى. لاسيما أنه يشعر بأن الحياة الاجتماعية أصبحت أكثر تعقيداً وإشكالية من أي وقت مضى خلال الثمانية عشر عاماً الماضية. وإنهم بعيدون كل البعد عن كل هذه المشاكل التي قد يواجهونها في المجتمع كأي عائلة عادية.
صوت الرياح وطقطقة البيبان والنوافذ المكسورة لخرابات القلعة
يظل الجانب الآخر من قصة هذه الأسرة المنعزلة عند نازنين قادر، زوجة ريبوار، التي تحدثت عن تجربتها في العيش في القلعة المهجورة؛ تزوجت نازنين من ريبوار وهي بنت في السادسة عشرة من عمرها، وانتقلت عروسة لتعيش في القلعة المهجورة. في البداية كان لديها شعور غريب بكيفية البدء بحياة جديدة بعيداً عن أهلها والناس أجمعين. لاسيما أنها جاءت من وسط عائلة كبيرة ومزدحمة من بلدة بحركة (16 كلم شمال أربيل) التي كانت آنَئِذٍ تعج بالحياة.
وتتذكر نازنين الليالي الطويلة المظلمة لفصلي الخريف والشتاء في القلعة، عندما كانت الرياح تعوي وأبواب ونوافذ خرابات القلعة المهجورة المكسورة تصطدم مما كانت تثير الخوف في قلبها. تقول نازنين: «كانت هناك ليالٍ تهب فيها رياح تعوي مثل عواء الذئب». وتضيف أنها علمت أنه بالإضافة إلى عدد كبير من المقابر الموجودة بالقلعة، توجد قبور حتى داخل معظم المنازل.
ولم تقتصر محنة نازنين على ذلك، بل إن القلعة بسبب أنها كان قد تم إخلاءها للتو، انتشر فيها العديد من المخلوقات مثل الأرانب والثعابين والفئران في الأحياء. ولكن لم يستغرق الأمر طويلاً حتى اعتادت نازنين على الوضع، وتقول: «كنت مضطرة لأتعلم كيف أكافح الثعابين والعقارب لأحمي منزلي وعائلتي من هذه المخاطر».
ولادة ابن «رجولي الطباع» ومشاكل جديدة
في عام 2008، أنجبت نازنين وريبوار طفلهما الأول، ريدار. ورغم أن وصوله جلب الحياة والبهجة إلى المنزل، إلا أنه جلب معه تحديات جديدة، خاصة مع عدم وجود الناس وغياب الخدمات الأساسية في القلعة مثل المستشفيات والأسواق والمدارس. إذ سرعان ما جلب هذا الواقع مشاكل جديدة للطفل الوحيد، لتضطر العائلة إلى أن تعتاد وتحاول التغلب عليها.
وبعد ريدار ولدت هَنار وعمرها الآن 14 سنة، ثم رَهيل المصابة بالشلل في عام 2014، وكان آخر العنقود فتاة تبلغ من العمر 10 سنوات تُدعى هَناسه. لكن الأطفال الأربعة عاشوا حياة مختلفة تماماً عن أقرانهم، حيث لم يكن لديهم أصدقاء أو جيران يلعبون معهم. وعندما يعودون من المدارس في أربيل، يبقون في المنزل وحدهم. خاصة وأن هناك مشاريع ترميم مستمرة للقلعة، ولا يمكنهم الخروج واللعب مثل أطفال المدينة، لكن ريبوار محمد يرى الجانب الإيجابي في ذلك، ويقول إنهم يتحررون من صداع شجار الأطفال فيما بينهم ومشاكلهم في الأزقة.
ولا يخفي ريبوار أن ابنه ريدار كان يتصرف كرجل، وليس كطفل، حتى بلغ السادسة من عمره. لأنه لم يعش بين أولاد من عمره، بل اعتاد على أن يقلد أباه في كل شيء. ولسوء الحظ، لم ييتمتع أطفال ريدار بسنوات الطفولة حتى ذهبوا إلى المدرسة وتعلموا التصرف مثل أقرانهم.
في عام 2006، أجرى فريق من جامعة بوهيميا من غرب جمهورية التشيك، بالتعاون مع جامعة صلاح الدين في أربيل، دراسة وتقییماً لقلعة أربيل. وأخذوا القياسات الجيوديسية للقلعة باستخدام صور الأقمار الصناعية، وحددوا سبع طبقات تاريخية تحت الأرض، تمثل كل منها فترة زمنية مختلفة من تاريخ المدينة.
وفي عام 2010، قامت الهيئة العليا لترميم قلعة أربيل (HCECR) بالتعاون مع المجلس العراقي للآثار القديمة والثقافة (SBAH) بترشيح قلعة أربيل كأحد المعالم الأثرية القديمة في كوردستان والعراق، ليتم تسجيلها ضمن مواقع التراث العالمي لليونيسكو، وتم التوقيع على اتفاقيتين بين الهيئة العليا لترميم قلعة أربيل واليونيسكو. وبدأت أعمال الترميم في العام نفسه بدعم من محافظة أربيل التي قدمت 13 مليون دولار لهذا المشروع، ليتم إدراجها في قائمة التراث العالمي لليونيسكو في عام 2014.
وفي أوائل القرن العشرين، كانت قلعة أربيل تحتوي على ثلاثة مساجد وكنيسة ومدرستين وتكيتين وحمام. وكانت القلعة مقسمة إلى ثلاث ضواحي واسعة من الشرق إلى الغرب، وهي: السراي والتكية والتوبخانة. وهذه الضواحي كانت مأهولة بالسكان من مختلف الطبقات الاجتماعية، فقد عاش النبلاء في السراي، والدراويش ومريدو طريقتي القادرية والنقشبندية في التكية، أما العامة وأصحاب الحرف والفلاحون، فكانوا يعيشون في التوبخانة.
اليوم، ورغم أن القلعة تبدو خاوية من سكانها، إلا أن تاريخها العريق وإرثها الحضاري يظل حياً بفضل جهود الترميم والمحافظة عليها، وكذلك بفضل العائلة الوحيدة التي اختارت أن تظل جزءاً من هذا التاريخ، رغم كل التحديات.
محمد دركَليي
صحافي ومصور يعمل في المجال الصحافي منذ 15 سنة وعضو في الاتحاد الدولي للصحفيين