تعيين أول طبيب بأربيل في العهد العثماني
تعيين أول طبيب بأربيل في العهد العثماني

رُغم الاهتمام النسبي في مرحلة مُبكرة من عُمر الدولة العثمانية بالطِّب وتدريسه وافتتاح مدارس له (القرن الرابع عشر الميلادي)، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات خاصة بالطبابة، مثل تعيين رئيس للأطباء وإصدار مراسيم تتعلق بمُزاولة الطِّب وإجراء تفتيش على محلات الأطباء أحياناً وإصدار تراخيص للبعض بمُزاولة المهنة ومنع البعض الآخر من مُزاولتها (القرن الخامس عشر الميلادي)، وإنشاء المُستشفيات التي كانت تُسمى دار الشفاء قبل ذلك بقرن، إلا أن ذلك كان مقتصراً على المُدن الكُبرى أو المراكز المهمة ولم يتعدَّ إلى المناطق النائية. كما أن تعيين خيرة الأطباء وإنشاء المُستشفيات أثناء حُكم الدولة العثمانية كان في الحواضر وتكاد تكون خاصة بالنُّخبة. أما الاهتمام الرسمي بالطّب وتعيين الأطباء وتوفير الأدوية والمُستلزمات الطبية فتكاد تنحصر في القصور السلطانية أو تلك المُرافقة للجيوش أو للمسؤولين الكبار، مع أن عدد من قضوا نحبهم من الجنود بسبب العلل والأمراض يكاد يُوازي عدد من قضى نحبه في العمليات العسكرية والمعارك.

ومدينة أربيل، كأي مدينة سُكانية وكغيرها من المناطق النائية والبعيدة عن السُلطة المركزية، كانت بالطبع تعرف مُمارسة الطِّب منذ القديم، لكن أمر الطِّب والعلاج كان موكولاً إلى الناس في استخدام الطريقة المُناسبة، سواء باللجوء إلى ما يُسمى بالطِّب الشعبي من خلال أطباء توارثوا المهنة عائلياً (يُسمى بالطِّب الكوردي في المناطق الكوردية وبالطب العربي في المناطق العربية وبالتركي في المناطق التركية)، أو حتى باللجوء إلى الطِّب الروحاني الذي قد يعتبره الطِّب الحديث من الشَّعوذة، أو غير ذلك من أنواع الطِّب المُتعارف حينها.

ومع انتشار الأوبئة والأمراض المُعدية في أنحاء الدولة العثمانية، وبخاصة أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وكذلك ما شهده هذا القرن من تطور في مجالات كثيرة ومنها المجال الصحي، ظهرت الحاجة إلى تنظيم الحياة الصحية بشكل أفضل. فكانت إجراءات الحجر الصحي التي كان أمر تنفيذها موكولاً إلى الجيش، كما كان أمر العلاج موكولاً في البداية إلى الأطباء العسكريين المُرافقين للوحدات العسكرية، مثلما كان ظهور أولى المُشافي في المناطق النائية كمشافٍ عسكرية. ثم ظهرت الحاجة إلى تعيين أطباء مدنيين فيما أصبح يُعرف حينذاك بالطِّب البلدي نسبة إلى البلديات التي كانت تتبع الداخلية، حيث يظهر أنه كان مُقرراً تعيين طبيب لكل بلدية، وبخاصة بعد افتتاح مدارس الطِّب العثمانية على النمط الحديث سواء العسكرية (Tıphane-i Amire) سنة 1827م أو المدنية (Mekteb-i Tıbbiye-i Mülkiye) سنة 1867، أو لجوء الكثير من طلبة الطِّب العثمانيين إلى دراسة الطِّب في الجامعات الأجنبية سواء أكانت داخل الدولة العثمانية أم خارجها.

البدايات: الطب العسكري ومواجهة الأوبئة

أقدم الوثائق العثمانية التي تتحدث عن تواجد ومساهمة طبيب في معالجة المرضى بشكل رسمي في أربيل كانت عن الطبيب (البينباشي عبد الرحمن أفندي)، الذي يبدو من رتبته العسكرية أنه كان من الضباط الأطباء المرافقين للقطعات العسكرية الموجودة قريباً من أربيل، وأنه كان أول طبيب أوفد بشكل رسمي من قبل الجيش إلى أربيل لمعالجة المرضى المصابين بوباء الكوليرا الذي انتشر في المنطقة حينها. وكان مكلفاً كذلك بإرسال التقارير عن انتشار الوباء وكذلك إحصاءات المصابين والمتوفين والمعافين منها. وأدناه مضمون الوثيقة التي تحمل الرمز Y_MTV_00044_00020 والمؤرخة في 13/7/1890، وهي عبارة عن رسالة من قائد الجيش تتحدث عن إرسال الطبيب المذكور إلى أربيل للتحقق من حالات الكوليرا وتكليفه بإرسال التقارير المتعلقة بالوباء. وفي وثائق أخرى قريبة من هذا التاريخ، تقارير الطبيب المذكور عن حالة انتشار الوباء والإحصاءات التي كان يرسلها تباعاً.

 

محاولات الانتقال إلى الطب المدني (البلدي)

ثم وفي مرحلة ثانية من الوباء، بعد بضع سنين، تتحدث وثائق أخرى عن ضرورة إرسال طبيب مدني إلى بلدية أربيل. ومنها الوثيقة التي تحمل الرمز DH_MKT_00285_00007 وبتاريخ 18\3\1312هـ - 19/9/1894م، والتي تتساءل عن تعيين طبيب بلدية الموصل بهاء الدين عارف أفندي، فلم لا تتم متابعة طلب ضرورة إرسال طبيب لكل من بلدية كركوك وبلدية أربيل، حيث إن الأطباء والجراحين العسكريين هم الذين يتولون الأمور لعدم وجود أطباء يحملون الشهادة الطبية على حد تعبير الوثيقة.

ومع ذلك، فقد تأخر ترسيم أول طبيب مدني يحمل الشهادة الطبية إلى أربيل بضع سنوات، إذ أن أول وثيقة تتحدث عن ترسيم طبيب لأربيل كان قبيل بداية القرن العشرين بأسابيع، وبالضبط في تاريخ 9/7/1317هـ - 13/11/1899م بالوثيقة التي تحمل الرمز DH_MKT_02269_00087. وكان محتواها عن قرعة تعيينات الأطباء المتخرجين من المدرسة الطبية العثمانية، التي كان نصيب أربيل منها الطبيب إسحاق هارون. لكن الدكتور إسحاق لم يرغب في المجيء إلى هذه المنطقة النائية وادعى أنه مريض لا يمكنه العيش في المناطق الريفية، فيُحال إلى الفحص الطبي الذي يبين أنه سليم ولا مشكلة له في العيش في المناطق الريفية. لذا، فإن عليه أن يعزم على السفر ويتجه إلى أداء وظيفته في أربيل حيث جاءت قرعة تعيينه. ومع ذلك فقد رفض هذا الطبيب السفر إلى أربيل وقام بدفع غرامة عدم امتثاله للقوانين بالذهاب إلى المنطقة التي تم تعيينه فيها والمقدرة بمائة وخمسين ليرة عثمانية (وهو مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت) إلى المدرسة الطبية الملكية حسب قوانين وأنظمة المدرسة التي كانت الدراسة فيها مجانية شريطة الالتزام بمدة توظيف معينة، وإذا لم يلتزم بهذا الشرط فإنه يجب أن يدفع تكاليف دراسته. وتشير الوثيقة نفسها التي جاء فيها هذا الإجراء إلى ضرورة ترسيم طبيب آخر لأربيل.

تعيين أول طبيب مدني فعلي في أربيل

ويبدو أن القرار لم يتأخر – نسبياً – هذه المرة، فكان الترسيم وبطريقة القرعة التي لا تقبل التبديل، من نصيب الطبيب نجم الدين أيوب بتاريخ 5/12/1319هـ - 15/3/1902م في الوثيقة ذات الرمز DH_MKT_00441_00033 والتوصية بصرف نفقة سفره من إزمير إلى أربيل لمباشرة عمله. ولا ندري هل كان الطبيب من إزمير فعلاً، إذ أن الوثيقة تدل فقط على نفقات الطريق من إزمير إلى أربيل فحسب.

ويظهر حسب تاريخ الوثيقة الأخرى المرمزة بـ DH_MKT_02547_00128  بتاريخ 10/7/1319هـ - 23/11/1901م أن قرار التعيين بالقرعة كان قد حصل قبل ذلك بأشهر وأن هذا الطبيب كسابقه لم يكن متحمساً للقدوم إلى أربيل فكان قد طلب نقله إلى كلس بسبب ضعف بنيته الجسدية! ولكن طلبه رُفض.

ومع أننا لم نتمكن من العثور على وثيقة تخبرنا عن تاريخ وصوله إلى أربيل ومباشرة عمله فيها، لكن ثمة وثيقة مهمة تدل على أن الطبيب أيوب قد أبلى بلاءً حسناً في عمله بأربيل، وأنه تم ترفيعه إلى الرتبة الوظيفية الثالثة بعد وصوله إلى أربيل بوقت قصير، وصدر أمر ترفيعه بتاريخ 26/5/1320هـ - 31/8/1902م في الوثيقة ذات الرمز İ_TAL_00283_00082. وبناءً على هذه الوثيقة يمكن اعتبار الدكتور نجم الدين أيوب أول طبيب يحمل شهادة الطب يمارس عمله في أربيل وبإشراف بلديتها.

ومع ذلك، يبدو أن مقام الطبيب لم يطل كثيراً. فإن وثيقة بعدها بحوالي سنتين تُظهر أن بلدية أربيل خالية من طبيب مدني، وأنه لا وجود لطبيب في كل لواء كركوك سوى طبيب أربيل الذي يبدو أنه كان يغطي لواء كركوك بجميع نواحيها. وأغلب الظن أنه كان قد انتقل لمباشرة عمله في مركز لواء كركوك، لذلك تم طلب إرسال طبيب خاص إلى أربيل نظراً لكثافتها السكانية وكذلك للسيطرة على الوباء الذي قدم من إيران، إضافة للقيام بعمليات تلقيح وباء الجدري. ويبدو أن الاستجابة للأمر تمت بشكل سريع نسبياً هذه المرة، ففي المراسلات وأوراق الوثيقة ذات الرقم DH_MKT_00933_00060 والتاريخ 17/12/1322هـ - 22/2/1905م يوجد قرار ترسيم الطبيب مهران كيفورك طبيباً خاصاً لبلدية أربيل، وبناءً على ما ورد في أوراق هذه الوثيقة، هو ثاني طبيب تم تعيينه وإرساله إلى أربيل.

ولا نعلم بالضبط هل وصل الطبيب مهران إلى أربيل أو المدة التي قضاها هذا الطبيب في حال قد وصل بالفعل، فلم نعثر على وثائق تدل على ذلك، لكن ثمة وثيقة بعد سنوات تحمل رمز DH_MUİ_00004_2_00038 وتاريخ 21\2\1327هـ - 14/3/1909م تبين أن هناك طبيباً آخر يدعى حافظ حسن أفندي تم تعيينه لبلدية أربيل، لكنه لسبب ما لم يصل إلى مقر عمله فتم اعتباره في حكم المستعفى من العمل. وتم تعيين طبيب بالوكالة يدعى فتح الله ميخا ساعاتي من أهالي الموصل، لكنه لم يتم قبول استمراره في عمله كطبيب رسمي في بلدية أربيل بحجة أنه متخرج من المدرسة الطبية في بيروت، وهذا مخالف للوائح تعيين الأطباء الرسميين، والتأكيد في الوثيقة المذكورة على ضرورة إرسال طبيب متخرج من المدرسة الطبية في إسطنبول.

وهناك وثائق في تواريخ سابقة ولاحقة تدل على وجود أطباء في بلدية أربيل من دون ذكر الأسماء، وذلك ضمن موضوعات لا تتعلق بالطب والمداواة كورود الاسم في سجل رواتب وميزانية البلدية، أو كذكر توقيع الطبيب على تقرير طبي، أو أنه كان ضمن لجنة من لجان البلدية. وغالب الظن أن هؤلاء الأطباء لم يكونوا من المتخرجين الذين يحملون شهادة طبية، بل ربما كانوا من الأطباء التقليديين بالطب الشعبي (الطب الكوردي على حد تعبير أهالي أربيل). كما تدل هذه الوثائق على وجود قابلة رسمية معينة في بلدية أربيل، إضافة إلى مفتش صحي في الكثير من الفترات.

وهكذا فإن مسيرة تأسيس نظام طبي حديث في أربيل، كانت مليئة بالتحديات والصعوبات. بدءاً من الاعتماد على الطب الشعبي التقليدي، ومروراً بالاستعانة بالأطباء العسكريين في أوقات الأزمات، وصولاً إلى محاولات تعيين أطباء مدنيين، وما واجهته من تحديات وصعوبات. ومع ذلك، فإن الجهود المستمرة والإصرار على تحسين الوضع الصحي أدت في النهاية إلى بدء تأسيس نظام طبي رسمي في أربيل بدأت بين عامي 1901 - 1902م، بتعيين الدكتور نجم الدين أيوب أول طبيب رسمي فيها، وإن كان ذلك قد تم بوتيرة بطيئة ومتقطعة.


أحمد معاذ يعقوب أوغلو

صحفي يعمل في مركز >فامر< للدراسات العثمانية في إسطنبول


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved