فرشاة قرني جمیل و «تَيراوه» هاجرتا معه نحو الغربة
فرشاة قرني جمیل و «تَيراوه» هاجرتا معه نحو الغربة
November 11, 2024

في وقت لم تكن شمس الغروب قد وصلت إلى أحضان محلة طيراوة (طاهرآوا)، ولم تودع بأفقه الأحمر القاني سماء المعسكر وقصر (عطاء الله آغا) ولم يكن الليل قد بدأ بحشر نفسه في الأزقة والبيوت المظلمة. في مثل هذا الوقت كان يود الفنان قرني جميل أن يخضع كل هذه التقلبات والتغيرات لتأملاته برؤية جنونية، ولإصبعيه اللتين كان يحمل بهما قلمه الرصاص الذي ينقش به إبداعاته على صدر الأوراق شبه السميكة.

في ذلك المساء، تمتع جميل كثيراً بمثل تلك الأجواء وتلذذ بجمال الغروب في المحلة، إلى درجة تمخض هذا الاستمتاع في الأخير رسمةً للضواحي بشكل فني في مونتيف أسود وأبيض، وأدخلها في جعبته التي قرر ألا يفارقها أبداً.

انه لزمن حزين، ها قد أذن نداء التغرب مرة أخرى في أذني الفنان، فسافر إلى بغداد. ومن بغداد، وفي مساء حزين أيضاً، بدأ الانطلاق نحو غياهب المنافي. ركب السفينة مشبعاً بخيالات محلته طيراوة، وذكريات باب المعظم والميدان، وباب الشرقي وفي النهاية (ميخانة شريف حداد)، ثم رؤية رافع الناصري وبنات بغداد الفاتنات ذوات اللون الحنطي الجميل، تاركاً كل هذه الأجواء وراءه متوجهاً نحو الغربة حيث تنسكب الألوان من أنامله متلألئة... وحين رنّت صافرة السفينة، ترك صهوة جواد خيالاته، ودمدم مع نفسه، متنفساً الصُعداء: 

- يا للروعة، هذه فرشاتي ومحلتي طيراوة ترافقانني نحو المنافي.

لكنه عندما بحث بين متاعه، امتقع وجهه، وقال:

- أين هو المونتيف؟ مونتيف محلة طيراوة.

لكن عندما عاد إلى نفسه، سيطرت على شفتيه بسمة عميقة: «آه... تركته في مكان آمن، إنه في أحضان أمي التي ستحافظ عليها كما حافظت علي».

وبعد سنوات طوال، عندما عاد من الغربة، جلسنا أنا وقرني جميل جلسة ممتعة واسترجعنا كل تلك الذكريات، عبر حوار شيق وجذاب، سألته:

  • كيف كانت علاقتك مع الفنانين العراقيين أيام الدراسة في معهد الفنون الجميلة؟

- أساتذتي كلهم كانوا من الفنانين العراقيين الكبار، أكثرهم كانوا من خريجي الأكاديميات الإيطالية والفرنسية والبولندية، وبعض البلدان الاشتراكية، آنذاك.

الاستاذ محمد علي شاكر، خريج كلية أكاديمية روما، كان يدرسنا درس اللون وهو أحد كبار الفنانين العراقيين، وكانت له خاصية في مجال صياغة الألوان، وكان له تأثير كبير علي. أما بالنسبة لدرس التخطيط فقد كان من نصيب الأستاذ رافع الناصري وهو فنان غرافيكي عالمي، والأستاذ شاكر حسن آل سعيد كان يدرسنا تاريخ الفن ونظرياته، وكان له أيضاً تأثير كبير علي.

  • وهل كانت لك علاقة مع الغاليریهات (المعارض) الموجودة في بغداد آنذاك؟
  • طبعا كانت هناك معارض فنية كثيرة في بغداد، وفي بعض المرات يشترك فيها فنانون عالميون. على سبيل المثال، المعارض التي كانت تقام في قاعة الكليات، ما عدا القاعات الفنية الصغيرة لفنانين مجددين في بغداد مثل سالم الدباغ، وعلي طالب، وضياء الغراوي، ورافع الناصري، وهاشم السمرجي و.... الخ. وكنت أحضر هذه المعارض عند الافتتاح، كنت أعرفهم في ذلك الوقت، وكان لكل منهم أسلوبه الخاص به، وكانت لهم نتاجات فنية رائعة.
    • وهل أقمت معرضاً فنياً في بغداد أثناء دراستك؟

    - في عام 1976، اشتركنا أنا والفنان جمال إبراهيم في معرض خاص بقاعة جمعية الثقافة الكوردية في الوزيرية وحضره جمهور غفير. ولم نكن نتوقع مثل هذا الجمهور بصراحة.

    • هل لك علاقة مع الفنانين العراقيين في الوقت الحاضر؟
    • لي علاقات كثيرة مع الفنانين العراقيين، في بغداد والبصرة خاصة، الذين يقيمون في أوروبا، ونتبادل كثيراً آراءنا حول الفن عبر الرسائل ووسائل التواصل الاجتماعي.
    • كيف رحلت إلى أوروبا، وكيف ترى الفن هناك؟ وهل حصل تحول في رؤيتك للفن بشكل عام، وللفن في وطنك خاصة؟
    • طبعاً، فقد كانت لي خلفية فنية ومعرفية حول الفن في أوروبا عندما ذهبت إلى هناك. فلم تكن غريبة عني أعمالهم التي كنت أراها رأي العين في المتاحف مباشرة.
    • وهل تمكنتم في كوردستان في أن تبنوا جسوراً فنية بينكم وبين الفنانين العراقيين؟
    • في الحقيقة، وكل في موقعه يحاول تحقيق ذلك. ولو قامت وزارة الثقافة في إقليم كوردستان بهذا العمل بشكل رسمي، فحتماً ستكون له نتائج جيدة. 

ناظم دلبَند 

كاتب وصحفي كوردي


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved