في وقت لم تكن شمس الغروب قد وصلت إلى أحضان محلة طيراوة (طاهرآوا)، ولم تودع بأفقه الأحمر القاني سماء المعسكر وقصر (عطاء الله آغا) ولم يكن الليل قد بدأ بحشر نفسه في الأزقة والبيوت المظلمة. في مثل هذا الوقت كان يود الفنان قرني جميل أن يخضع كل هذه التقلبات والتغيرات لتأملاته برؤية جنونية، ولإصبعيه اللتين كان يحمل بهما قلمه الرصاص الذي ينقش به إبداعاته على صدر الأوراق شبه السميكة.
في ذلك المساء، تمتع جميل كثيراً بمثل تلك الأجواء وتلذذ بجمال الغروب في المحلة، إلى درجة تمخض هذا الاستمتاع في الأخير رسمةً للضواحي بشكل فني في مونتيف أسود وأبيض، وأدخلها في جعبته التي قرر ألا يفارقها أبداً.
انه لزمن حزين، ها قد أذن نداء التغرب مرة أخرى في أذني الفنان، فسافر إلى بغداد. ومن بغداد، وفي مساء حزين أيضاً، بدأ الانطلاق نحو غياهب المنافي. ركب السفينة مشبعاً بخيالات محلته طيراوة، وذكريات باب المعظم والميدان، وباب الشرقي وفي النهاية (ميخانة شريف حداد)، ثم رؤية رافع الناصري وبنات بغداد الفاتنات ذوات اللون الحنطي الجميل، تاركاً كل هذه الأجواء وراءه متوجهاً نحو الغربة حيث تنسكب الألوان من أنامله متلألئة... وحين رنّت صافرة السفينة، ترك صهوة جواد خيالاته، ودمدم مع نفسه، متنفساً الصُعداء:
- يا للروعة، هذه فرشاتي ومحلتي طيراوة ترافقانني نحو المنافي.
لكنه عندما بحث بين متاعه، امتقع وجهه، وقال:
- أين هو المونتيف؟ مونتيف محلة طيراوة.
لكن عندما عاد إلى نفسه، سيطرت على شفتيه بسمة عميقة: «آه... تركته في مكان آمن، إنه في أحضان أمي التي ستحافظ عليها كما حافظت علي».
وبعد سنوات طوال، عندما عاد من الغربة، جلسنا أنا وقرني جميل جلسة ممتعة واسترجعنا كل تلك الذكريات، عبر حوار شيق وجذاب، سألته:
- أساتذتي كلهم كانوا من الفنانين العراقيين الكبار، أكثرهم كانوا من خريجي الأكاديميات الإيطالية والفرنسية والبولندية، وبعض البلدان الاشتراكية، آنذاك.
الاستاذ محمد علي شاكر، خريج كلية أكاديمية روما، كان يدرسنا درس اللون وهو أحد كبار الفنانين العراقيين، وكانت له خاصية في مجال صياغة الألوان، وكان له تأثير كبير علي. أما بالنسبة لدرس التخطيط فقد كان من نصيب الأستاذ رافع الناصري وهو فنان غرافيكي عالمي، والأستاذ شاكر حسن آل سعيد كان يدرسنا تاريخ الفن ونظرياته، وكان له أيضاً تأثير كبير علي.
- في عام 1976، اشتركنا أنا والفنان جمال إبراهيم في معرض خاص بقاعة جمعية الثقافة الكوردية في الوزيرية وحضره جمهور غفير. ولم نكن نتوقع مثل هذا الجمهور بصراحة.
ناظم دلبَند
كاتب وصحفي كوردي