لم تكن الذكرى الثالثة والستون لثورة أيلول / سبتمبر ضد الظلم والاستبداد هذا العام في إقليم كوردستان إلا «ملحمة» جسدها مجموعة من الشعراء والفنانين والمخرجين على مسرح قاعة المؤتمرات في محافظة دهوك. وقد تم افتتاح الفعالية من قبل الرئيس مسعود بارزاني وبحضور رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني.
في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر من عام 1961، أشعل الحزب الديمقراطي الكوردستاني شرارة ثورة أيلول التحررية بقيادة الزعيم الكوردي الشهير الملا مصطفى البارزاني ضد الظلم والاستبداد. وتقول كتب التاريخ إنه بفضل إرادة الشعب الكوردي وسعيه في الحصول على الحرية والعدالة الاجتماعية، أصبحت جبال كوردستان العالية منبعاً وخلية للثورة وحصناً لثوارها المعروفين في أدبيات التاريخ والسياسة باسم «البيشمركة». وسرعان ما انتقلت شرارة الثورة إلى جميع المناطق، من زاخو إلى خانقين.
ولأن ثورة أيلول لها وقع خاص في قلب كل كوردي، فقد رأى مجموعة من الفنانين أن تجسيد هذه الثورة ضمن عمل درامي مسرحي هو الأجدر بأن يكون وقفة وذكرى تحيي هذه المناسبة التي امتدت لسنوات طويلة، وما زال الشعب الكوردي يقطف ثمارها إلى اليوم. كما يقول الباحث الأكاديمي عبد الله جعفر كوفلي من مدينة دهوك، التي شهدت عرض المسرحية بحضور لم يسبق له مثيل، وعلى رأسهم الزعيم الكوردي مسعود بارزاني، ورئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني.
اتفق الجميع على تسمية المسرحية بـ«ملحمة كوردستان»، وبالكوردية «داستانى كوردستان». بدأ العرض كما وصفه كوفلي لـ«كوردستان بالعربي» بموسيقى حماسية وإضاءة متقنة، تبعتها كلمة افتتاحية ألقاها الشاعر المعروف برهان زيباري. وقد أخذتنا كلمته في رحلة تاريخية، بدءاً من عيد نوروز قبل 2724 سنة، حين تصدى كاوا الحداد للظلم والاضطهاد، مروراً بفترة حكم صلاح الدين الأيوبي، وخاني، وخالد النقشبندي، ونشوء الفكر القومي والثورات والانتفاضات الكوردية. كما تطرق زيباري إلى ما تعرض له الشعب الكوردي من قتل وتهجير وتدمير، وتقسيم أراضيه بمباركة القوى الكبرى، وصولاً إلى جمهورية كوردستان في مهاباد وتسليم العلم الكوردستاني للبارزاني ومسيرته إلى الاتحاد السوفييتي السابق وعودته إلى العراق بعد ثورة 14 تموز 1958، التي تسببت في تغيير الحكم من الملكي إلى الجمهوري، قبل أن تتراجع السلطات عن وعودها بمنح الشعب الكوردي حقوقه وحرياته، مما أدى إلى اندلاع ثورة أيلول في 11/9/1961، التي انتهت باتفاقية 11 آذار 1970. وبعدها جاءت اتفاقية الجزائر المشؤومة، ومن ثم انطلقت ثورة گولان، والانتفاضة الشعبية وما تلتها من أحداث، حتى الوصول إلى قرار الاستفتاء الشعبي في إقليم كوردستان في 25/9/2017، وهجوم الجيش العراقي على الإقليم، وتسجيل ملاحم بردى وسحيلا بأيدي قوات البيشمرگة الأبطال.
ووصف رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني المسرحية التي عمل مبدعوها على إعدادها منذ عام ونصف بأنها «تحفة فنية مهمة، وقصة مثابرة أمة». وأوضح أن «رسالة العرض موجهة للشباب»، مؤكداً أن ما تحقق للأمة اليوم لم يكن سهلاً، بل جاء من خلال مقاومة الشعب الكوردستاني من أجل الحرية والازدهار.
ويقول كوفلي الذي كان منبهراً بالعمل الملحمي، إنه «بقدر غوصنا في أعماق تاريخ الأمم، يتبين لنا أن الأعمال الفنية بكل أشكالها هي التي تحدد مدى تقدم تلك الأمم ومساهمتها في بناء الحضارات الإنسانية». وأضاف: «ما بقي لنا من تاريخ الأمم وآثارها ليس إلا جزءاً من أعمالهم الفنية من نحت واختراع وتصميم وصناعة، وهذه الأعمال هي مدخل للدراسات والبحوث العلمية والتحقيقات التي تدرس الحضارات السابقة من قبل الباحثين والمؤرخين والمختصين».
وتابع قائلاً: «انطلاقاً من هذه الرؤية، فإن جميع الشعوب تهتم بالفن والثقافة وتعدها ر سالة إنسانية تخاطب من خلالها الشعوب الأخرى، وتعبر عن ذاتها وثقافتها وتراثها ودورها الحضاري». وأضاف أن «الشعب الكوردي هو أحد الشعوب التي عاشت منذ آلاف السنين على هذه الأرض، وساهمت بشكل كبير في بناء الإنسانية بقدر ما سمحت له الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأن أرضه كانت على مر التاريخ ساحة للصراع بين القوى العالمية الكبرى. لكن كلما سنحت له الفرصة أبدع وارتقى إلى مستوى يحسده الآخرون عليه».
وحول خلفية مسرحية «ملحمة كوردستان»، قال كوفلي: «سمعنا أن مجموعة من المبدعين منشغلون بعمل فني مسرحي كبير باسم ملحمة كوردستان، فتحمسنا للحضور والمشاهدة. حتى الرئيس مسعود بارزاني ألقى كلمة قيمة، بعد انتهاء العرض، عبر فيها عن سعادته بهذا الإنجاز التاريخي الكبير الذي يعد عملاً وطنياً وثقافياً مميزاً. ولا شك أن الحضور الجماهيري الكبير في قاعة المؤتمرات دليل على أهمية المسرح وحب شعب كوردستان، وخاصة أهل دهوك، للأعمال الفنية وإيمانهم بقدرة أبناء مدينتهم على تقديم المزيد».
وحول التقييم الفني للمسرحية، أوضح كوفلي أن «أحداث المسرحية كانت متسلسلة ومترابطة بشكل مميز، حيث أبدع الكاتب في سرد الأحداث، وأدى الممثلون أدوارهم بمهارة فنية عالية، ما جعلهم ينقلون الجمهور إلى قلب الأحداث. كانت الموسيقى قادرة على السيطرة على مشاعر الجمهور، ما جعلهم يتفاعلون مع المشاهد بحرارة وتصفيق مستمر. أما المخرج الشاب ومن ساعده، فقد أبدعوا في عرض المشاهد وتمكنوا من التأثير على الحضور بالحزن والفرح».
ومن ناحية أخرى، كما أشار كوفلي، فقد استطاعت «المسرحية، بجدارة، تسليط الضوء على أسباب ضعف الشعب الكوردي، المتمثلة في الانقسام والتجزئة، رغم نداءات العلماء والمفكرين. وأكدت أن القوة تكمن في الوحدة، وأن الإصرار على البقاء والعزيمة هما السمتان الأساسيتان للشعب الكوردي». وأضاف أن «المشاهد المؤثرة في المسرحية كانت كثيرة، وبالأخص تلك التي أظهرت تعرُّض الشعب للقتل والإهانة من دون مناصر أو مدافع».
وأكد كوفلي أن المسرحية كانت «رسالة صريحة وصادقة للجيل الجديد بأن تاريخنا عريق ومليء بالإنجازات، وأن الآخرين هم من كتبوا تاريخنا بما يخدم مصالحهم. المسرحية ساهمت بشكل كبير في تعزيز الحس القومي لدى الحاضرين، وجعلتهم يفتخرون بتاريخهم وثقافتهم. كما أوضحت أن منجزات اليوم هي حصيلة سنوات من النضال والتضحية، وليست منحة أو صدقة من أحد».
واختتم كوفلي حديثه للمجلة بقوله إن المسرحية «كانت لها رسالة أخرى واضحة بأننا نملك قدرات فنية هائلة، وكل ما نحتاجه هو التفكير السليم والتخطيط الدقيق والإدارة الجيدة. ورغم كل التحديات، فإن النجاح ممكن. وإن الحضور الجماهيري الكبير، وخاصة من العوائل، دليل على تعطش الناس للحرية وإيمانهم بأهمية معرفة تاريخهم الحقيقي».
هدى جاسم
صحفية عراقية