في العدد السابق، قدمنا معلومات مستندة إلى الوثائق السوفييتية حول تنظيم رحلة عودة البارزانيين من الاتحاد السوفييتي إلى وطنهم بعد منفى دام اثني عشر عاماً. في هذا العدد، نواصل سرد أحداث هذه الرحلة التاريخية التي تستحق التأمل، حيث شهدت بداية عهد جديد من العلاقات الودية بين الشعبين الكوردي والعربي في العراق.
في الساعة الثانية وخمس وعشرين دقيقة من صباح الثاني من نيسان أبريل 1959، انطلقت السفينة جورجيا، أو غروزيا، من رصيف ميناء أوديسا الأوكراني متوجهة إلى ميناء البصرة العراقي. وقد واجهت السفينة عواصف في البحر الأسود بلغت شدتها 6 -7 درجات، مما أربك الركاب وأدخل الخوف في نفوسهم. ومع ذلك، تحسنت الأحوال الجوية لاحقاً، لكن الحرارة الشديدة في المناطق الاستوائية على طول الطريق الذي امتد لأكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، أثرت على شهية الركاب وراحتهم خلال الرحلة.
كانت تغذية العائدين خلال الرحلة مجانية، بمعدل 20 روبلاً في اليوم لكل شخص. تم إعداد طعام خاص أو «غذاء حمية» للأطفال والمرضى الذين يعانون من مشاكل في المعدة، كما كان يُقدم للذين يرغبون في طلب أطباق إضافية. في الأيام الحارة التي بدأت بعد الدخول إلى مياه البحر الأحمر وحتى الوصول إلى ميناء البصرة، كانت تُقدم للمهاجرين مياه معدنية مجاناً.
تم تقديم الوجبات في ثلاث قاعات مطاعم على متن السفينة خلال فترتين. وكان جميع العائدين راضين عن جودة وتنوع الطعام، وكذلك عن خدمة العاملين في المطاعم، وهو ما تم تسجيله في دفتر الاقتراحات والملاحظات الخاص بالمطعم على السفينة.
اهتمت الإدارة أيضاً بتنظيم المساعدة الطبية للعائدين خلال رحلتهم الطويلة. كانت الخدمة الطبية للركاب تُقدم من خلال عيادة السفينة التي تضم عدة أطباء: طبيب باطني، وجراح، وطبيب أطفال، وطبيب أسنان، بالإضافة إلى طاقم طبي متوسط. ومع وجود هذا العدد من العاملين الطبيين وتوفر معظم الأدوية والمواد الطبية الضرورية، فضلاً عن وجود عدد من الأسرة المخصصة للمرضى على متن السفينة، كانت العيادة الطبية قادرة على إجراء علاجات متعددة، وإجراء عمليات جراحية معقدة، وإعطاء حقن، واستقبال حالات الولادة، وغيرها من الخدمات.
عدد كبير من الركاب زاروا العيادة، حيث بلغت الزيارات في بعض الأيام 60 - 70 شخصاً. وفي بعض الحالات، استخدم الركاب فرصة الخدمة الطبية للدخول إلى المستشفى لفحص صحتهم. علاوة على ذلك، تم توفير العديد من الأدوية الطبية النادرة والمضادات الحيوية مثل البنسلين، والستربتوميسين، والبيوميسين، وغيرها للركاب لأخذها معهم إلى جمهورية العراق.
خلال الرحلة، عانى بعض الأفراد من أمراض مثل الحصبة، والتهاب الزائدة الدودية الحاد، ونوبات من أمراض المعدة والقلب، وآلام المخاض، وقد تم تقديم المساعدة الطبية اللازمة للمرضى. بشكل عام، انتهت الرحلة من دون أي أمراض وبائية أو أخرى خطيرة، وهو ما كان نتيجة للعمل الجاد والجدير بالثناء من قبل فريق الأطباء على متن السفينة، بقيادة الطبيب الباطني المتمرس أ. ي. أرتيوخ.
ولم تُنسَ الأنشطة الثقافية والترفيهية، حيث تم تنفيذها وفقاً للخطة المعدة مسبقاً. تقريباً يومياً، وكان هناك عرضان للأفلام كل يوم، وأمسيات رقص للكورد، والاستماع إلى حفلات موسيقية عبر الراديو، حيث كانت تُخصص مساحة كبيرة لتسجيلات الأغاني الشعبية والموسيقى الكوردية. كما تم تنظيم مباريات في الكرة الطائرة، والشطرنج، والدومينو وغيرها. كانت المكتبة تعمل بشكل مستمر، وجرت مناقشات مع زوجات المقاتلين، وهن نساء سوفييتيات، حول قضايا العيش في الخارج.
على مدار الرحلة، كان المقاتلون، وخاصة الشباب، يتحدثون بمحبة واحترام عن الحياة في الاتحاد السوفييتي - وطنهم الثاني. وكانوا يعبّرون باستمرار عن شعورهم العميق بالرضا عن تنظيم عملية العودة إلى الوطن.
سارت الرحلة إلى البحر الأحمر من دون أي حوادث، باستثناء الفحوصات الدقيقة لوثائق العودة في ميناء بورسعيد في مصر، قبل المرور من قناة السويس. زار ممثلون من الهيئات الحدودية المصرية السفينة مرتين بغرض التفتيش. في المرة الأولى، قاموا بالإجراءات الرسمية قبل عبور القناة، مثل التعرف على قائمة الركاب والتحقق منها، وفي المرة الثانية، كان الهدف هو التحقق من وثائق العودة ودراسة تفاصيل الركاب بشكل دقيق.
ولتجنب أي استفزازات في بورسعيد من قبل عناصر مشاغبة، سواء من الشاطئ أو من القوارب التي تقترب من السفينة، اتخذت قيادة السفينة تدابير وقائية معينة، مثل إغلاق الطابق السفلي أمام الركاب، وتقييد الخروج إلى الطوابق الأخرى، وفرض رقابة صارمة على القوارب التي تقترب من السفينة، وتوضيح الإجراءات اللازمة اتباعها للركاب أثناء التوقف في الميناء وعند عبور قناة السويس.
تجاوزت السفينة قناة السويس، وكانت قد قطعت مسافة كبيرة في البحر الأحمر. وفجأة، واجهت السفينة في منطقة 15 درجة شمالاً في 9 أبريل 1959، في المياه الدولية المفتوحة، مدمرة أمريكية رقم 649. اقتربت المدمرة من السفينة على بعد 250 - 300 متر، وأخذت مساراً موازياً على الجانب الأيمن، وبدأت تطالب بالإجابة عن أسئلة: «من أنتم؟ وما هو الميناء الذي تتوجهون إليه؟».
بعد عدم تلقي إجابة مباشرة، اتجهت المدمرة نحو جورجيا، وبدأت بالتحرك بسرعة نحوها. وعندما اقتربت منها بمسافة 75 - 100 متر، تراجعت إلى مؤخرة السفينة، ثم اتجهت إلى الجانب الأيسر منها، وأخذت مساراً موازياً لها مرة أخرى، وكررت نفس المطالب. استمرت هذه الأفعال، التي يمكن اعتبارها تصرفات مشاغبة، من قبل المدمرة الأمريكية في المياه المفتوحة لمدة 50 دقيقة.
لم تخلُ الرحلة من المغامرات والأحداث المثيرة. تقريباً بعد ساعة من مغادرة المدمرة الأمريكية، ظهرت فوق السفينة طائرة فرنسية في منطقة 15 درجة شمالاً. قامت الطائرة بالتحليق فوق السفينة على ارتفاع منخفض، ثم بدأت بالدوران حولها، مكررة هذه العمليات عدة مرات. وبعد نصف ساعة، غادرت الطائرة باتجاه الصومال الفرنسي (جيبوتي حالياً).
وفي اليوم التالي، 10 نيسان / أبريل، في الساعة 11 صباحاً، وفوق خليج عدن، جنوب جبال عدن، ظهرت نفس الطائرة الفرنسية مجدداً فوق السفينة. وكررت الطائرة نفس العمليات التي قامت بها في اليوم السابق لمدة 15 دقيقة. بينما استمرت الرحلة في بقية المسار حتى ميناء البصرة في أجواء هادئة.
استغرق الطريق من أوديسا إلى ميناء البصرة العراقي 15 يوماً. وصلت السفينة جورجيا إلى ميناء البصرة في 16 نيسان / أبريل الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان في استقبال السفينة حوالي مئة وخمسين قارباً على بعد أكثر من ثمانين كيلومتراً من البصرة، حيث كانت هناك وفود من المنظمات الاجتماعية وعمال الميناء.
يقول أحد المشاركين في هذه الرحلة، أ. ف. كيسيليف، متذكراً تلك الأحداث: «لما وصلنا إلى البصرة كان هناك استقبال رسمي، وعشرات بل مئات من السفن المرافقة، وطائرات تحلق فوق رؤوسنا، ثم حشود من الناس على الرصيف. كان كل ذلك مؤثراً جداً».
وكان استقبال الكورد العائدين أثناء مرور السفينة عبر أراضي جمهورية العراق حاراً للغاية، وتحول إلى مظاهرة شعبية. وقبل وقت طويل من الوصول إلى البصرة، عند دخولها مصب نهر شط العرب، استقبلت السفينة مجموعة من البواخر النهرية والزوارق المليئة بالناس والمزينة بالأعلام. ورحب الجميع بمواطنيهم العائدين إلى الوطن، وكذلك بالمواطنين السوفييت الذين أشرفوا بنجاح على عملية العودة.
وجدت السفينة نفسها محاطة بشكل كثيف بأسطول نهري صار يرافقها. أبطأت جورجيا سرعتها إلى الحد الأدنى لتكون قريبة من أسطول السفن والزوارق المرافقة لها. وعلى طول الساحل العراقي لشط العرب، كانت هناك حشود من الناس تصفق وتهتف للسفينة المتحركة. كانت تُسمع في كل مكان هتافات ترحيبية وشعارات عن صداقة الحكومتين السوفيتية والعراقية، مدعومة باستمرار بالتحية العربية «يعيش».
وفي الساعة الـ12 ظهراً، ظهرت على متن السفينة المجموعة الأولى من ممثلي الحكومة العراقية، وأعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وممثلو قيادة حامية البصرة، وموظفو الميناء، وعمال السفارة السوفييتية، والصحفيون.
في هذه الأجواء الاحتفالية وبناءً على طلب موظفي السفارة السوفييتية وقيادة السفينة، تم تنظيم استقبال للضيوف القادمين، حيث شارك فيه حوالي 50 شخصاً. في الساعة 14:00، وعند الاقتراب من ميناء البصرة، صعدت إلى السفينة المجموعة الثانية من المسؤولين العراقيين، والحزب، والصحافة، بما في ذلك الملا مصطفى البارزاني، ورئيس شرطة بغداد عبد الباقي الذي كان مفوض الحكومة العراقية لاستقبال العائدين، ومحافظ البصرة، وممثل الهلال الأحمر العراقي لاستقبال العائدين، وأشخاص آخرون.
وبمناسبة إقامة هذه المجموعة من الضيوف على متن السفينة، وكذلك التوقيع الرسمي على وثيقة تسليم العائدين من قبل الصليب الأحمر السوفييتي إلى الهلال الأحمر العراقي، تم تنظيم استقبال ثانٍ، حضره حوالي 80 شخصاً. وفي كلا الاستقبالين، وخاصة في الأخير، تم تقديم العديد من التهاني والتصريحات الودية تكريماً لقادة الحكومتين السوفييتية والعراقية. وبعد هذا الاستقبال، أرسل البارزاني برقية شكر مباشرة من السفينة إلى الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف بمناسبة النجاح في إتمام العملية.
وفي إطار ضيق من ممثلي الصليب الأحمر السوفييتي وقيادة السفينة، أبلغ البارزاني أنه تم إعداد هدايا تذكارية لأعضاء الوفد المرافق للصليب الأحمر وطاقم السفينة. كما تم الإبلاغ عن أنه بعد تفريغ الركاب في البصرة، سيُعقد اجتماع بمناسبة عودة الكورد إلى وطنهم.
اجتمعت في البصرة حشود كبيرة قُدرت بحوالي 15,000 شخص، في 16 أبريل وفي الساعة 22:00. بعد الاجتماع، تم دعوة وفد الاتحاد السوفييتي وقيادة السفينة جورجيا إلى حفل استقبال من قبل محافظ مدينة البصرة.
وفي 17 أبريل في الساعة 8:00، غادر وفد الصليب الأحمر السوفييتي مع الوفد العراقي، الذي وصل من بغداد إلى البصرة لاستقبال الكورد العائدين، إلى بغداد. وكان في استقبال الوفد القادم في مطار بغداد وزير الصحة الدكتور محمد الشواف وموظفو السفارة السوفييتية. وتوجه الوفد السوفييتي مباشرة من المطار إلى مقر اللجنة التنفيذية للهلال الأحمر وبعد تبادل قصير للتحيات، قدم الدكتور الشواف للضيوف لمحة عن عمل جمعية الهلال الأحمر.
وفي 18 أبريل، عُقد اجتماع في مقر الهلال الأحمر، حضره أيضاً السكرتير الأول للسفارة السوفييتية كابلييف. بعد ذلك، اُستُقبل أعضاء الوفد السوفييتي العائدون الكورد في محطة القطار بمدينة البصرة. وسرعان ما وصل الملا مصطفى البارزاني وأعضاء الوفد الحكومي وشخصيات رسمية أخرى.
في الساعة 16:00، وصل أول قطار ركاب يقل العائدين إلى بغداد، وفي الساعة 17:00، وصل القطار الثاني. فاستقبل سكان بغداد مواطنيهم العائدين إلى الوطن بحرارة بالغة. ومر البارزاني وممثلو الصليب الأحمر السوفييتي بجميع عربات القطارات وودعوا كل عائد، متمنين لهم حياة سعيدة في مكانهم الجديد.
جان دوست
شاعر وروائي ومترجم كوردي، صدر له العديد من الكتب والروايات وترجم العديد من الروائع الكورديةإلى العربية