في «ضيافة» طه الشكرجي
في «ضيافة» طه الشكرجي
November 22, 2024

وصلت أربيل يوم 29/5/1974. أول ما بدت لنا قلعتها الغريبة وسط المنخفض الفسيح. منذ أكثر من ستة آلاف عام والناس يتوارثونها جيلاً بعد جيل وحضارة فوق سقف حضارة. بين المدينة وسكانها ميثاق بالدم، لن تصبح تأريخاً، إنما حياة متواصلة

المدينة حين دخلناها كانت ساحة حرب. تنطلق رصاصة لتصاب المدينة بمغص من الرصاص والقنابل التي تنطلق من جميع الجهات. ليس للخوف شكل مجسد، إنما هو متشرب في هواء المدينة. تراه في وجوه الخائفين والمخفيين على السواء

كنّا مجموعة صحفيين بانتظار طه الشكرجي في ناد للضباط وسط قاعدة عسكرية أجهل اليوم مكانها. تأخر علينا المضيّف ليترك لنا فسحة لكي نتخيله قبل قدومه. فسحة الانتظار هذه وضعتني أمام السؤال المكرر عن علاقة الشكل بالمحتوى. فقد سمعت الكثير من أحاديث الكورد الهامسة عن قسوة هذا الرجل، وكراهيته المتأصلة للكورد. لم أصدق احتمالاتي، المعرفة اللاحقة تنفي دائماً فكرة التطابق بين الشكل والمحتوى. الحياة كما هي فنّدت توقعاتي الساذجة، أرتني جلادين (ببراءة الأطفال في عينيه) حسب تعبير الشاعر نزار قباني ورأيت جلادين خرجوا توّاً من أقبية التعذيب ولبسوا على الفور الهيئة الطبيعية لموظف غادر الآن مكتبه في الطريق إلى بهجة الأطفال والعائلة. لا ضرورة لأن يكون الجلاد جلاداً بالفطرة. قالت لنا (حنه أرندت) بأن القسوة في أنظمة القمع الشامل غير مشخصنة، الجلاد في هذه الأنظمة موظف عادي يؤدي واجبه فحسب من دون مشاعر ندم أو كراهية

حين أطلّ الرجل فاجأني: متوسط القامة، مائل للقصر، أحمر الوجه، أشقر ليس في وجهه أية ميزات خاصة، عادي تماماً ومحصن ضد الانفعال. شمس المعركةً تركت مكاناً أبيض تحت بيريته. كثير من الصحفيين حولي مشغولون بالتملق والإشادة بشجاعته. أنا ورفيقي الشاعر جمعة الخلفي كنّا صامتين. اعتذر عن تأخره بسبب (شغله). شغلتني (الشغلة) التي جاء منها. تذكرت الكلمات العادية التي استخدمتها النازية لتسمية جرائمها الجماعية (تسوية، التعامل مع، حل) كلمات إدارية مألوفة في مراسلاتها الإدارية، تخفي تفاصيل أبشع المجازر الجماعية

قبل أن يجلس معنا طلب تغيير المكان في حديقة النادي العسكري وفسر ذلكً

بإنه لا يريد أن يعطي ظهره للعدو. العدو في ذهنه ليس محدداً بالمقاتل الكوردي، إنما هو أيضا العدو المفترض. ففي طريقنا شهدنا بمزيج من الغصة والغضب بلاد الجمال المستباح. خلف كل منعطف ينفتح أمامنا سهل أخصر ساحر. فوق قمم التلال تستقر الربايا المسوّرة بأكياس الرمل وفوهات المدفعية وتحتها قرية أحرقت أمام أعين سكانها لكي تنام الربية بأمان. وخلف التل التالي جمال آخر يقول أيضاً: انتظر لترى ما بعدي! وما بعد ليس إلا جمال بلا حياة.

اختار لنا مضيفنا مكاناً خافت الإضاءة. وأخذ يدير الحديث بلا اتجاهات، تحدث عن تنبؤات المنجمين والتنويم المغناطيسي وتعقيدات الإنسان ثم تحدث عن نفسه. قال إنه قضى حياته بين مكانين، يأتي إلى الميدان كما هو اليوم حين تشتعل الحرب في الشمال أو يعود لعائلته حين تتوقف الحرب ويبدأ الحوار السياسي. ودائمًا كانت شروطه مختصرة: ألا يسأل عن خسائر الذخيرة والأرواح. أنا غائب وراء خيالي وتأويلاتي، لذلك حوّل الحديث إليّ ليخرجني من أوهامي عنه. أعرف ما يقولوه عني في بعض الأوساط: جلاد الكورد. قضيت شطراً من حياتي ملحقاً عسكرياً في الخارج، وعلى عكس المتحذلقين معي في السفارة كنت أكثرهم تحضراً، تلبس زوجتي أفخر ملابسها وتقف إلى جانبي مع الأفندية الذين يضربون زوجاتهم بالحزام في استقبال المهنئين، قالها ليفرق بين شخصين في مهنته، بين ما يتطلبه الشغل في الميدان وبين حياته المنزلية. قالها ثم التفت لمساعده المدفعي. أظنه سعيد حمّو. التفت إليه ليذكره بشغلة خفيفة في الرابعة صباحاً وارتدى بيريته وغادر.


زهير الجزائري

كاتب وروائي عراقي


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved