السماوة تلك المدينة العراقية التي تقع على ضفاف نهر الفرات وبادية كبيرة تشكل الجزء الأكبر منها، والسماوة تتباهى باسمها الذي يعني في القاموس اللغوي العربي، العلو والرفعة، وهي حقاً كذلك بتاريخها العريق والثري. مدينة تمتد من ماء الفرات إلى أطراف الصحراء، مدينة مفعمة بقصص وحكايات تغور في عمق التاريخ المفعم بنهر الفرات وبساتين النخيل وبادية جميلة ومحزنة في آن واحد، تلك البادية التي تتحول في الليل إلى لوحة نجوم صافية لا شبيه لها، بادية عرفت على طرفها حكايات السجون والمنافي السياسية من كورد وشيوعيين وناس باحثة عن حرية الشعب وكرامته، ومن طرفها الآخر حيث بساتين النخيل والأغاني التي تغزلت فيها، ناهيك عن قطارها المشهور (قطار السماوة) الذي حمل أوجاع الشعب العراقي على مر عقود، هذا القطار الذي استقله الحاج عزيز حمود تاجر التبوغ لإعادة ابنه الذي كان في قبضة البيشمركة ليطلق سراحه شخصياً من قبل البارزاني الخالد وسط حكاية عابقة بالكرم والشجاعة والإصرار يرويها نجل الحاج عزيز حمود.
يتحدث الأستاذ الموسيقي المعروف جمال الحاج عزيز حمود السماوي قائلاً: «أعي هذه الحادثة تماماً، كان أخي الأكبر وهو من مواليد السماوة عام 1942، المدلل عند والدي، التحق بالجيش العراقي في الخدمة الإلزامية وعمره ثمانية عشر عاماً، إذ كان متأخراً عن أقرانه بالدراسة، في البداية التحق بمركز تدريب في كركوك لمشاة الجيش العراقي، حينذاك كان الوضع متأزماً بين الجيش والبيشمركة. وبعد انتهاء التدريب في كركوك نقل إلى راوندوز حيث تم أسره بعد فترة قصيرة من قبل قوات البيشمركة مع مجموعة من الجنود من المحافظات الجنوبية خاصة».
ويستدرك قائلاً: «والدي الحاج عزيز حمود تاجر تبوغ معروف في السماوة وكانت له علاقات طيبة وواسعة مع تجار التبغ والسكائر في أربيل والسليمانية، كما كانت لديه علاقات جيدة مع الكورد العاملين في دوائر الدولة في مدينة السماوة، كالقضاة والإداريين الكبار منهم، لطبيعته كشخصية ديمقراطية محبة للسلم وزياراته المتكررة إلى كوردستان للعمل والراحة».
السماوي يروي لنا قائلاً: «بعد أسر أخي طلبت الوالدة من والدي التصرف والاتصال بأصحابه وأصدقائه التجار الكورد في السليمانية وأربيل لكي يصلوه بالقائد الكوردي الملا مصطفى البارزاني لكي يطلق سراح أخي».
ويُكمل قائلاً: «بعد اتصالات عديدة ورحلة متعبة شبه مخفية عن أعين السلطة والجيش وعلى ظهور البغال وفي طرق وعرة وجبال ووديان وبمساعدة العديد من الكورد، وصل الوالد إلى منطقة گلالة حيث مقر القائد الملا مصطفى البارزاني» .
هناك التقى والدي وجها لوجه بالزعيم الكوردي حيث كان لهم حديث شيق وساعات مفعمة بالكلام الجميل والطريف عن أهل الجنوب ومحبتهم للكورد، وبالعكس حسب رواية الوالد عن محبة الكورد لأهل الجنوب.
بعد عدة ساعات من الحوار والضيافة والكرم، تم تسليم أخي إلى الوالد الذي قدم شكره الجزيل المفعم بالحب والاحترام للقائد الكوردي الملا مصطفى البارزاني، ليعود الوالد عبر كركوك ومن كركوك بالقطار إلى مدينة السماوة.
السماوي يروي قصة عودة أخيه قائلاً: «كانت والدتي قد نذرت على نفسها إذا عاد أخي أن تلبس ملابس من مادة (الجنفاص) وتتسول في الشوارع والدرابين القريبة لكي تستقبل ابنها بالحلوى. وحين سمعت الوالدة بعودة ابنها مع الوالد من كركوك عبر محطة قطار السماوة، قامت بتنفيذ نذرها فلبست (الجنفاص) وجمعت المبالغ من الناس في طرقات المحلة وهي أول سابقة في تاريخ المدينة من هذا النوع، بفرحة غامرة بعودة ابنها الأسير الذي استقبلته العائلة والأقارب وجموع من المستقبلين في محطة قطار السماوة بزفة وطبول ونثر الورد والحلويات على رؤوس الجميع».
لم ينسَ والدي وعائلتنا هذه الحادثة أبداً حيث ظل والدي يتحدث عن رجولة وكرم الملا مصطفى البارزاني كلما سنحت له الفرصة، وبعد انقلاب شباط الفاشي عام 1963 وما تلاه من أحداث وقتل عام وتشريد للشعب الكوردي خلال عقدين من الزمن، ظلت العائلة ووالدي وفياً إلى الشعب الكوردي حيث استقبل العديد منهم بعد نفيهم إلى السماوة ومحولاً محل عمله ومخازنه إلى مخزن للمواد الغذائية التي كان يقوم بتوزيعها على الكورد مع توفير أماكن للسكن مع عدد من أهالي المدينة للمهجرين منهم في تحدي نبيل للسلطات ورجالات الأمن وكذلك زرع في العائلة حبه للشعب الكوردي إلى يومنا هذا.
كفاح الأمين
كاتب وصحفي وباحث فوتوغرافي كوردي. ولد في بغداد عام 1954. تخرج من كلية الصحافة بجامعة موسكو، خبير بالتوثيق والأرشفة