عرفتُ الشهيد السيد مهدي الحكيم منذ سنة 1966 والتقيت به عدة مرات وعرفته إنساناً مهذباً ومرحاً جداً ومطلعاً على الأمور السياسية إضافة إلى معلوماته الكثيرة في الأمور الدينية، كان إنساناً عصرياً ومؤمناً بالحياة الديمقراطية الليبرالية، كما كانت له آراء إيجابية جداً في القضية الكردية، وكان يؤمن بحق تقرير المصير للشعب الكوردي، وكان له أصدقاء كثيرون بين مختلف الاتجاهات السياسية، وله علاقات صداقة مع العديد من الشخصيات العراقية، وكان ذا مركز مرموق في المجتمع، فبالإضافة إلى كونه من أنجال العلامة الكبير الإمام والمرجع الديني الأعلى للجعفرية السيد محسن الحكيم، فإنه كان يتميز بتلك الصفات الحميدة وكان ذا شخصية محبوبة ومحترمة.
بعد انقلاب السابع عشر من تموز سنة 1968 ووصول حزب البعث للحكم، تعرض للمراقبة والملاحقة نظراً لشخصيته ومكانته، وكان نصيب أكثر زائريه والمترددين عليه إما الاعتقال أو الإعدام أو المطاردة. اضطر السيد مهدي الحكيم إزاء ذلك الموقف العدائي للاختفاء وقد صدر بحقه غيابياً حكم الإعدام.
وفي أوائل صيف 1969 استدعاني الزعيم الراحل مصطفى البارزاني وطلب مني الاتصال بصورة سرية ببعض الأصدقاء من الذين كانوا على علاقة جيدة بالثورة الكوردية، وفي الوقت نفسه كانوا محسوبين أو موالين للنظام. وذلك للعمل على إنقاذ السيد مهدي الحكيم، الذي كان مختفياً في إحدى المدن الجنوبية، ومحاولة تهريبه إما إلى مناطق الثورة الكوردية أو خارج العراق. وقد زودني البارزاني باسم الشخص الذي يعلم مكان اختفاء الحكيم وكلمة السر الخاصة بينهما، وزودني برسالة شخصية إلى الشخصين اللذين سيقومان بذلك العمل وهو المرحوم أسعد فتاح هركي والشيخ جيتو السيد طه النقشبندي.
وسافرت إلى منطقة أربيل ووصلت إلى مقر قوات الپیشمرگة فی المرتفعات القريبة من أربيل، ولم يكن أحد يعلم بالمهمة التي كنت بصددها عند إرسالي سوى البارزاني الذي أمر بقيامي بتلك المهمة والأخوين إدريس ومسعود. وخوفاً من تسرب الخبر فإنني لم أُطلع عليه أحداً، حتى فارس باوه، قائد قوات الپيشمرگة في منطقة أربيل، لم يطلع على السبب الحقيقي لزيارتي غير رغبتي في لقاء أسعد هركي وزيارته. كان القتال على أشده وكان المدعو محمد أمين فرج أحد المنشقين متصرفاً (محافظاً) لأربيل يتخذ كل الإجراءات ضد أي شخص يشتبه في كونه متعاطفاً مع الثورة الكوردية وقيادتها، وحتى أنه أحياناً كان يشترك شخصياً مع قوات الجيش في حملاتها على القرى والأماكن التي كانت يشتبه وجود الپيشمرگة فيها.
وقد أثار وجودي في المنطقة تكهنات كثيرة وخاصةً بين مسؤولي الحزب والپيشمرگة في المنطقة وراح الجميع يحلل سبب وجودي حسبما يروق له وكيفما يشاء، ولم تتطرق الشكوك بأي حال من الأحوال إلى مهمتي الأصلية. وأرسلت في طلب شخص كان يسكن في قرية قوريتان (جنوب أربيل بحوالي 10-15 كيلومتراً، وتعود هذه القرية إلى أحد أعمامي وهو المرحوم جوكل آغا)، وكان الشخص المطلوب هو أحمد رسول الملقب بـ«كاكو» الذي أعرفه معرفة جيدة فكان يعمل سابقاً لدى عمي المذكور وأولاده، وكان على علاقة جيدة مع أسعد هركي، فقد كان يعمل لديه كوكيل ومعتمد لإدارة أعماله في المنطقة.
وصل كاكو إلى مقر إقامتي فأبديت له رغبتي في لقاء أسعد بصورة سرية، ولأمر مهم. عاد كاكو بعد أن أبلغ أسعد هركي بذلك فأظهر رغبته في اللقاء أيضاً، ولكنه كان حذراً جداً ولا يريد أن تشك السلطات في ولائه وعلمها بوجود أية علاقة له بقيادة الثورة الكوردية، ولحرصه على عدم تسرب الخبر إلى سلطات النظام أجاب أسعد بوجوب ذهابي إلى المنطقة بصورة سرية. تهيأت للسفر في إحدى الليالي ومعي أربعة أو خمسة مسلحين وكذلك الوسيط والدليل كاكو، غادرنا المقر سيراً على الأقدام وعبرنا طريق صلاح الدين - أربيل (طريق هاملتون) عند الفجر قاطعين وادي بـسـتـورة. وكانت هنالك تلة مشرفة على الطريق العام وعليها ربيئة عسكرية لحراسة الطريق وفـيـهـا أفراد مسلحون من المرتزقة الهركية العائدين للمرحوم أسعد هركي.
فصعد كاكو التلة المذكورة قاصداً الربيئة بينما ابتعدنا نحن عن الطريق العام منتظرين عودته، وبعد تبادل بضع كلمات وبعد أن انفرد كاكو بمسؤول الربيئة، عاد متجهاً نحونا وأخبرنا بالتحرك وقال بأن أسعد موجود في مصيف صلاح الدين وأنه أوصى الشخص المذكور بالذهاب إليه وطلب العودة منه إلى قريته «ميراخور» التي كانت على بعد عدة ساعات بصحبة الشيخ جيتو.
أسرعنا في السير، وبعد حوالي ساعتين وصلنا إلى بيت شَعْر لأحد أصحاب الماشية وكان ينتمي إلى عشيرة الهركي، وكنا متعبين كثيراً وبعد أن كلمه كاكو سراً، رحب بنا صاحب الخيمة كثيراً وفرش لنا إذ غلبنا النوم. وبعد أكثر من ساعة نهضنا وقد أعد لنا إفطاراً لذيذاً من اللبن والخبز الحار والشاي. وبعد تلك الاستراحة توجهنا إلى قرية ميراخور فوصلنا إليها حوالي الظهر وهناك رحب بنا وكيل أسعد وهيأ لنا طعاماً شهياً وفور الانتهاء من تناول الغداء، وصلت سيارة جيب أمريكية وفيها أسعد والشيخ عز الدين السيد طه النقشبندي الملقب بـ«شيخ جيتو» وأكرم قادر الهركي ابن عم أسعد، الذي كنت أعرفه سابقاً ومعهم بعض المسلحين. وقد سلمتهم رسالة البارزاني وأطلعتهم على مهمتي وطلبت منهم القيام بتنفيذها مهما كلّف ذلك وبأية طريقة يرونها مناسبة وأخبرتهم بأنني سوف أعود إلى مقر قواتنا بانتظار النتيجة. فوعدوني خيراً وأخبروني بأنهم سوف يسافرون بأسرع وقت إلى تلك المدينة وسيتصلون بالشخص الوسيط ويزودونه بكلمة السر وأنهم يبذلون كل جهودهم للقيام بتلك المهمة وتنفيذها. وكان الشيخ جيتو جريئاً ومتحمساً ومستعداً للسفر إلى كربلاء وتنفيذ المهمة بنفسه رغم المخاطر.
أصبح الوقت عصراً، وطلب أسعد مغادرتي القرية فوراً قبل أن يتسرب خبر وصولي إلى السلطات. فإنها بدون شك ستقوم بتحريك قواتها للقبض علي حياً أو ميتاً، فذكرت بأننا متعبون جداً وسنمكث تلك الليلة هناك وسنغادرها في اليوم التالي عند المغيب. فاعترض أسعد وألَحَّ على وجوب مغادرتنا فاشترطت عليه نقلنا بسيارته إلى ما وراء الطريق العام، فاحتار في الأمر وعندها تعهد ابن عمه أكرم بأنه سيقوم بمهمة نقلنا آمنين إلى المكان الذي تصل إليه السيارات.
وبعد أن ودعنا أسعد وصحبه استقللنا سيارة أكرم التي كان يقودها بنفسه وبدأ بقطع الطريق إلى أن وصل إلى الطريق العام فاعترضتنا مفرزة للجيش وبعد اطلاعهم على هوية أكرم أفسحوا لنا الطريق وواصلنا السير قاطعين وادي بستورة إلى أن أوصلنا إلى المناطق الخاضعة لنفوذنا ثم ترجلنا وأكملنا سفرنا وعاد أكرم إلى حيث أتى بعد أن ودعنا.
كان المرحوم أسعد ذكياً وفطناً ويحسب حساب جميع الأمور فكان يتوقع أن يتسرب الخبر، ولا بد أن السلطات ستعلم بعد يوم أو يومين بمجيئي. وتجنباً للمساءلة والتحقيق فقد طلب مني تحرير رسالة شخصية إلى قائد الفرقة الأولى العميد عمر الهزاع الذي كنت أعرفه سابقاً لكي يدعي أن سبب وجودي هو طلب إيصال تلك الرسالة التي كانت شكلية ومليئة بالمديح والمجاملات طالباً منه، باعتباره عنصراً خيّراً، أن يلعب دوراً جيداً من أجل العمل على حل القضية الكوردية سلمياً. وقد برّر أسعد موقفه بتلك الرسالة وتمكن من إقناع قائد الفرقة الذي قدّره على ذلك الموقف.
عدت إلى مقرنا ووصلت في ساعة متأخرة من الليل وانتظرت بضعة أيام أخرى. فوصل كاكو في أحد الأيام حاملاً رسالتين إحداها من أسعد وشيخ جيتو والثانية من الشخص الوسيط الموجود في كربلاء حيث اختفى السيد الحكيم. وأُخبرت بأنه قد تم إنقاذه وأُوصِل سالماً إلى خارج الحدود وأخبرني بمكان وجوده في ذلك الوقت، وكان دولة عربية خليجية.
قمت بإرسال برقية للبارزاني بهذا الخصوص وبدأت بالعودة في اليوم التالي متجهاً نحو مقر القيادة، واستغرقت مهمتي تلك من يوم إبلاغي بها لحين عودتي حوالي شهر واحد. وقد أقام السيد مهدي الحكيم مدة في دول الخليج ثم انتقل إلى إيران، وأخيراً استقر في بريطانيا وأسس هناك في بداية الثمانينات من القرن الماضي، بالتعاون مع الدكتور السيد محمد بحر العلوم الشخصية الدينية والسياسية المعروفة، مركزاً كبيراً باسم (مركز أهل البيت) يقوم، ولغاية اليوم، بمختلف الأنشطة السياسية والدينية، ويُستعمَل لمختلف المناسبات الاجتماعية والدينية والسياسية.
واستشهد السيد مهدي الحكيم في شهر كانون الثاني من سنة 1988 في السودان عند حضوره مؤتمراً اسلامياً وقد اغتاله غدراً النظام العراقي. وكان رحمه الله على علاقة جيدة بالثورة الكوردية وقيادتها وبصورة خاصة بالسيد مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني وبالشهيد إدريس البارزاني، وكانت له علاقات قديمة معنا شخصياً. وأقيم مجلس الفاتحة على روحه الطاهرة في مركز أهل البيت الذي أسسه بنفسه، كما أسلفت، وكانت أيام الفاتحة تظاهرة سياسية كبيرة عبرت فيها الجماهير المغتربة بمختلف مذاهبها وقومياتها عن غضبها على النظام وحزنها الشديد على استشهاد السيد الحكيم.
* المقال مقتبس من كتاب «أحداث عاصرتها – الجزء الثاني» للسياسي المعروف الأستاذ محسن دزَيي، دار آراس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2002