في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم العربي في القرن العشرين، برز رجل استثنائي جمع بين سحر الكلمة وقوة الفكر، مُشكلاً بذلك جسراً بين عالمين: عالم الأدب الساحر وعالم السياسة المتقلب. إنه خير الدين الزركلي، ذلك المؤرخ والشاعر السوري الذي نسج بأنامله خيوط التاريخ والأدب، مُخلداً اسمه في سجلات الزمن.
ولد الزركلي عام 1893 في بيروت، مدينة الثقافة والفن، لكن دمشق العريقة احتضنته وغذت روحه بينابيع العلم والمعرفة. وما بين أزقة الشام القديمة ومكتباتها العامرة، تشكلت شخصية رجل كُتب له أن يكون شاهداً على عصر مليء بالتحديات والتغيرات.
لم يكتفِ الزركلي بأن يكون مجرد مراقب للأحداث، بل اختار أن يكون في قلبها. فمن خلال قلمه الثائر، واجه الاستعمار الفرنسي في سوريا، مُسطراً بحروف من نور قصة نضال شعب بأكمله. وفي الوقت نفسه، مد جسور التواصل مع الأسرة الملكية السعودية، ليصبح جزءاً من مشهد سياسي وثقافي أوسع، متنقلاً بين عوالم متباينة بمهارة الدبلوماسي المحنك وحساسية الأديب المرهف.
نشأة خير الدين الزركلي وبداية مسيرته الأدبية
وُلد خير الدين الزركلي في بيروت لعائلة من أصول كوردية، وانتقل في طفولته إلى دمشق، حيث تلقى تعليمه الأساسي والثانوي. درس الزركلي في «المدرسة الأهلية» في دمشق، وتفوق في مجالي الأدب والعلوم. ومنذ صغره، كان الزركلي شغوفاً بالشعر والكتابة، وبرز كشاعر بارع في اللغة العربية، حيث نظم قصائد تعبر عن مشاعره الوطنية تجاه بلاده وشعبه. كانت أولى محاولاته الأدبية تتعلق بقضايا الاستعمار ونضال الشعب السوري ضد الاحتلال الفرنسي.
تزامنت فترة شباب الزركلي مع مرحلة الاستعمار الفرنسي لسوريا، التي فرضت تحديات كبيرة على الكتاب والشعراء الذين كانوا يسعون للحفاظ على هوية بلادهم ومواجهة هذا الغزو. ومن هنا، برزت شخصية الزركلي كشاعر مناهض للاستعمار، إذ تعرض للعديد من أحكام الإعدام الصادرة بحقه من قبل السلطات الفرنسية، ولكنه نجح في الهروب منها، ليبدأ رحلة النفي والترحال.
الهروب إلى الحجاز والعلاقة مع الأسرة الملكية السعودية
عندما حكم عليه الاستعمار الفرنسي بالإعدام بعد مشاركته في النشاطات المناهضة لهم، اضطر الزركلي للهرب إلى خارج سوريا. في البداية، اتجه إلى فلسطين، حيث استمر في كتابة المقالات السياسية والاجتماعية. ولكن مسيرته أخذت منعطفاً جديداً عندما انتقل إلى الحجاز، وتحديداً مكة المكرمة.
في الحجاز، وجد الزركلي الدعم من شريف مكة، حسين بن علي، الذي كان قائداً للثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية. منح الشريفُ حسين الزركليَّ الجنسيةَ العربية، مما أمن له حماية قانونية وسياسية، وساهم في انخراطه في الحياة الثقافية والسياسية في المنطقة. هذا الدعم لم يكن مجرد دعم شخصي، بل كان يعبر عن تقدير الملك حسين للزركلي كمثقف وكاتب وشاعر قادر على دعم مسار التحرر العربي.
في الوقت نفسه، بدأ الزركلي في التعاون مع الأمير عبد الله بن الحسين، الذي أصبح فيما بعد الملك عبد الله الأول مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية. ساهم الزركلي في دعم جهود الأمير عبد الله لتأسيس أول حكومة في شرق الأردن (الأردن اليوم) من خلال الكتابة في الصحف والمجلات وإصدار جريدة يومية في القدس. و كانت مقالات الزركلي تعبر عن رؤية واضحة لدور المثقف في دعم القضايا الوطنية، وبناء الحكومات العربية المستقلة، بعيداً عن الهيمنة الاستعمارية.
الدور الثقافي والسياسي للزركلي في السعودية
مع تطور مسيرته، أصبحت علاقة الزركلي بالأسرة السعودية أكثر قوة وتأثيراً. كان الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، يُدرك قيمة الزركلي الثقافية والعلمية. في هذه المرحلة، بدأ الزركلي في القيام بزيارات متكررة إلى السعودية، وشارك في بعض الأنشطة الثقافية والسياسية في البلاد.
واستطاع الزركلي بفضل قدرته الكبيرة على الكتابة والتأثير في الرأي العام أن يكون أحد أعمدة الصحافة العربية في ذلك الوقت. وأسس مطبعة «العربية» في القاهرة، حيث قام بنشر العديد من كتبه المهمة، إلى جانب كتب لكتّاب آخرين. كما ساهم في إصدار جريدة «الحياة» اليومية في القدس، ولكن هذه الجريدة تعطلت بفعل السلطات البريطانية. وفي يافا، لم يستسلم الزركلي، بل أسس جريدة أخرى، وواصل جهوده في نقل هموم الشعب العربي وتطلعاته إلى الرأي العام.
وفي خطوة أخرى، تم تعيينه عضواً في مجمع اللغة العربية في مصر، وهو تقدير لمكانته الأدبية والعلمية، حيث كان له دور بارز في تطوير اللغة العربية ودعم جهود التحديث الثقافي في المنطقة.
«الأعلام» موسوعة الزركلي الخالدة
في خضم اهتماماته المتنوعة بالسياسة والأدب، برز الزركلي كعَلَم شامخ في سماء المعرفة العربية، متوِّجاً مسيرته بإنجاز علمي فذ تمثل في كتابه الخالد «الأعلام». هذا السِفر العظيم، الذي يُعد بحق درة تاج الموسوعات العربية، جاء ليرسم بحروف من نور سِيَر الشخصيات العربية والإسلامية، ناسجاً خيوطاً ذهبية تربط ماضي الأمة الإسلامية بحاضرها.
بدقة الصائغ وصبر العالِم، نحت الزركلي في صفحات كتابه صوراً حية لرجالات العصور، قديمها وحديثها، مستنداً إلى بحث دؤوب وتمحيص عميق. فكان كتابه كالبحر في عمقه، وكالجبل في رسوخه، يستقي منه الظامئون للمعرفة، ويهتدي بنوره الباحثون عن الحقيقة.
لقد غدا «الأعلام» منارة شامخة في عالم المراجع العربية، يلوذ به كل باحث ومفكر، مقدماً للثقافة العربية والإسلامية خدمة جليلة لا تُقدر بثمن. فهو ليس مجرد كتاب، بل جسر يعبر الأزمنة، يربط بين عبق الماضي وإشراقات الحاضر، في نسيج موسوعي فريد يشهد على عظمة الفكر العربي وثراء تراثه.
وهكذا، يبقى «الأعلام» شاهداً على عبقرية الزركلي وإخلاصه لأمته، وسيظل نبراساً يضيء دروب المعرفة للأجيال القادمة، مؤكداً أن العلم والثقافة هما السبيل الأمثل لنهضة الأمة وازدهارها.
وفاة الزركلي وإرثه
توفي خير الدين الزركلي في 25 نوفمبر 1976 بعد حياة حافلة بالنشاطات الأدبية والسياسية. ورغم أن علاقته بالأسرة الملكية السعودية لم تكن معروفة للكثيرين بنفس درجة شهرته كشاعر ومؤرخ، إلا أن هذه العلاقة شكلت جزءاً مهماً من قصته، حيث أمنت له بيئة داعمة استمر من خلالها في نشاطاته الأدبية والسياسية.
لا يزال إرث الزركلي حاضراً حتى يومنا هذا، سواء من خلال مؤلفاته، مثل «الأعلام»، أو من خلال دوره الريادي في تأسيس الصحف العربية، ودعمه للحركات الوطنية في مواجهة الاستعمار. تظل علاقته الوثيقة بالأسرة الملكية السعودية شهادة على قوة الروابط الثقافية والسياسية التي جمعتهما، وعلى إسهامه الكبير في النهوض بالثقافة العربية في فترة من أصعب فتراتها التاريخية.
إن حياة الزركلي قصة نضال وإبداع، ربطت بين الأدب والسياسة، وجمعت بين الحركات التحررية في بلاد الشام وتأسيس الدولة السعودية الحديثة، لتظل حياته نموذجاً للمثقف الذي يسهم في بناء أوطان متعددة، ويساهم في صنع تاريخها وثقافتها.
سامان لاوه
مؤلف ورائد في مجال التكنولوجيا ومدرب ومرشد. يشغل حالياً منصب رئيس البنية التحتية لمجموعة «نافيكو» في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. له كتابان «بناء الرشاقة في الخدمات» و«تحقيق التميز التنظيمي»