في قلب مدينة مندلي الكوردية، على مشارف الحدود العراقية الإيرانية، تنمو فاكهة نادرة تحمل في طياتها تاريخاً عريقاً وفوائد طبية جمّة. إنها فاكهة الرمان الأسود، أو كما يُعرف باللغة الكوردية المندلاوية «عنار سِيَه»، ذلك الصنف الفريد الذي يعدّ أحد أثمن كنوز التراث الزراعي والطبي في المنطقة.
تاريخ عريق يمتد لآلاف السنين
يعود تاريخ هذه الفاكهة النادرة إلى ما قبل 5000 عام، متزامناً مع نشأة مدينة مندلي ذاتها. وعلى مر العصور، حافظ سكان المدينة من الكورد والعرب والتركمان على هذا الإرث الثمين، متناقلين أسرار زراعته وفوائده من جيل إلى جيل. كان البستانيون في الماضي يزرعون ما بين 5 إلى 6 أشجار في كل بستان، بالإضافة إلى زراعتها في حدائق المنازل القديمة ذات المساحات الواسعة.
خصائص فريدة تميزه عن باقي أصناف الرمان
يتميز الرمان الأسود بقشرته الرقيقة ذات اللون الأسود الداكن، والتي تنفجر عند اكتمال النضج لتكشف عن حبيبات حمراء داكنة في الداخل. ويبلغ متوسط وزن الثمرة الواحدة ما بين 300 إلى 400 غرام. ولعل أبرز ما يميز هذا الصنف هو مذاقه الفريد، إذ تبلغ نسبة المرارة فيه 75% مقابل 25% من الحلاوة. هذا المذاق الفريد يجعله غير مناسب للاستخدام التجاري أو لصناعة دبس الرمان، لكنه يحتفظ بقيمته الطبية العالية.
موطن أصلي فريد
تعتبر مدينة مندلي الموطن الأصلي والأمثل لزراعة الرمان الأسود، حيث تصل نسبة نجاح زراعته فيها إلى 100%، وذلك بفضل خصائص تربتها الفريدة وظروفها المناخية الملائمة. وفي المقابل، تنخفض نسبة نجاح زراعته في المناطق الأخرى إلى ما بين 50 - 60 % فقط. هذا التفرد جعل من مندلي وجهة للبستانيين من مناطق أخرى الراغبين في الحصول على شتلات هذه الفاكهة النادرة.
تقلبات الإنتاج عبر التاريخ
شهد إنتاج الرمان الأسود تقلبات كبيرة على مر السنين. ففي أوج ازدهاره قبل الثمانينات، كان هناك آلاف الأشجار في بساتين وحدائق مندلي، مع إنتاج سنوي يتراوح بين 2 إلى 5 أطنان. إلا أن الحروب والنزوح وشح المياه أدت إلى انخفاض الإنتاج بنسبة 70%. ومع بداية الألفية الجديدة، بدأ الجيل الجديد من البستانيين في إحياء هذا التراث، ليصل الإنتاج في عام 2023 إلى 750 كيلوغراماً. لكن عام 2024 شهد انخفاضاً في الإنتاج إلى 300 كيلوغرام بسبب شح المياه وارتفاع درجات الحرارة.
طرق الزراعة والعناية
تتم زراعة أشجار الرمان الأسود باستخدام العقل من الأشجار الأم، ويبدأ موسم الزراعة من منتصف فبراير حتى أوائل أبريل. وتحتاج الأشجار إلى عناية خاصة، إذ يجب زراعتها في ظل الأشجار الأخرى لحمايتها من قسوة الطقس. وتبدأ الشجرة في الإنتاج بعد 2 إلى 3 سنوات من الزراعة، وتستمر في الإثمار لمدة 15 عامًا فقط. يبدأ موسم نضج الثمار في منتصف أكتوبر، ويتم حصادها في بداية نوفمبر.
تقاليد فريدة في الحفظ والاستخدام
كان لأهالي مندلي تقليد فريد في حفظ ثمار الرمان الأسود. فكانوا يربطون الثمار معاً بحبل يتراوح طوله بين 5 و 10 أمتار، بحيث يحتوي كل حبل على 25 إلى 30 رمانة. ثم يعلقون هذه الحبال داخل منازلهم لحمايتها من الظروف الجوية وللاستخدام الطبي عند الحاجة.
فوائد طبية وتجميلية
عرف سكان مندلي وضواحيها منذ القدم الفوائد الطبية للرمان الأسود، فاستخدموه لعلاج العديد من أمراض الجهاز الهضمي كآلام البطن والإسهال والمغص. كما استخدمت النساء قشوره المجففة والمطحونة في صباغة الشعر وتقويته بشكل طبيعي. وقد أصبحت هذه القشور المطحونة تباع في محلات العطارة كوصفة طبيعية لتقوية بصيلات الشعر ومنع تساقطه وتطهير فروة الرأس.
نظرة مستقبلية
رغم قيمته التاريخية والطبية، لا يزال الرمان الأسود بحاجة إلى مزيد من البحوث العلمية والطبية لاستكشاف كامل إمكاناته. كما أن هناك حاجة ملحة للدعم الإعلامي لتعريف العالم بهذا الكنز الطبيعي النادر، والذي قد يفتح آفاقاً جديدة في مجال الأدوية الطبيعية. ويسعى البستانيون حالياً لزيادة عدد أشجار الرمان الأسود، والذي يبلغ حالياً حوالي 500 شجرة في مندلي.
إن الرمان الأسود شاهد حي على عراقة التراث الكوردي وتنوعه، وهو يذكرنا بأهمية الحفاظ على الموروثات الطبيعية والثقافية في عصر التقدم التكنولوجي والطبي. إنه ليس مجرد فاكهة، بل هو جزء لا يتجزأ من هوية مدينة مندلي وتاريخها العريق.
فاطمة قاسم حبیب
صحفية ومترجمة، مهتمة بالتراث والثقافة الكوردية