في ظل صراع يلقي بظلاله الثقيلة على الحياة اليومية في محافظة دهوك بإقليم كوردستان العراق، يواجه مربو النحل مأساة صامتة تهدد مصدر رزقهم وتراثهم. فقد شهد إنتاج العسل في المنطقة تراجعاً حاداً، في مشهد يعكس الأثر العميق للعمليات العسكرية التركية المستمرة ضد حزب العمال الكوردستاني.
جعفر علي، أحد مربي النحل البارزين في المنطقة، يروي قصة مؤلمة عن فقدان سبل العيش. يقول بحسرة: «خلايا النحل التي كُنّا نربيها في مناطقنا خارج مركز الناحية، ضربتها الطائرات ودمرتها بالكامل. خسرتُ أكثر من 200 خلية نحل لغاية الآن، وبقي لدي ما يُقارب 50 خلية فقط». هذه الكلمات تلخص معاناة شريحة كاملة من المجتمع، اضطرت للنزوح من قراها الحدودية بحثاً عن الأمان.
على سفح جبل متين، تنتشر عشرات النقاط العسكرية التركية، شاهدة على تصاعد حدة الصراع. خلف هذا الجبل، تقبع قرية علي وقرى أخرى كثيرة، أصبحت الآن أشبه بأشباح. يضيف علي بنبرة حزينة: «لا نستطيع الذهاب هناك بسبب القصف. تركنا في القرية مجموعة كبيرة من خلايا النحل، بعضها احترق بسبب النيران وأخرى دُمرت بسبب القصف».
الإحصاءات الرسمية تكشف حجم المأساة، إذ تشير إلى أن 95% من قرى ناحية «دێرهلوك» وحدها قد هُجرت قسراً. هذا الوضع المأساوي يمتد ليشمل معظم القرى في البلدات الحدودية بمحافظة دهوك، حيث فقد السكان منازلهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم بالكامل.
في الماضي القريب، كانت مناطق العمادية وما يجاورها من أراضٍ جبلية خصبة موطناً مثالياً لتربية النحل، حيث كان الإنتاج وفيراً والنوعية ممتازة. لكن الآن، كما يؤكد علي: «كنا نتحرك بحرية من مكان إلى آخر. بعد الصراع الدائر، وخاصة في الأعوام الأخيرة، اضطر الناس إلى ترك قراهم ونقل خلايا النحل إلى داخل المجمعات السكنية وبالقرب من منازلهم».
الأرقام تتحدث عن نفسها. فحتى عام 2023، وبحسب احصائيات رسمية كانت محافظة دهوك تنتج حوالي 350 طناً من العسل سنوياً. ومنذ ذلك الحين، فقد ما يقارب 50 نحالاً كوردياً حياتهم، وتعرضت مساحات شاسعة من المزارع الجبلية للحرق، على يد عناصر من حزب العمال الكوردستاني، مما أدى إلى تدمير أراضٍ تحتضن أجود أنواع الأزهار التي يعتمد عليها النحل في غذائه.
شهادة من قلب المعاناة
في مشهد يعكس مأساة الحرب وتداعياتها على حياة المدنيين، يجد مربو النحل في شمال شرق دهوك أنفسهم محاصرين في دوامة من الخوف والقيود، حيث حولت النزاعات المسلحة ما بين حزب العمال الكوردستاني والجيش التركي حياتهم وسبل عيشهم رأساً على عقب.
في لقاء خاص، لــ «كوردستان بالعربي» تحدث أحد مربي النحل، الذي فضل عدم الكشف عن هويته خوفاً من انتقام عناصر حزب العمال الكوردستاني. يقول بحسرة: «وضعنا سيء للغاية. لا نستطيع أخذ نحلنا إلى الأماكن التي نريدها، إلى بيئتها الطبيعية، حيث توجد الكثير من الزهور والنباتات»
ويضيف موضحاً سبب هذه القيود: «لا نستطيع الذهاب إلى هناك بسبب انتشار عناصر حزب العمال الكوردستاني. لقد مرت سنوات عديدة، حوالي 10 سنوات، منذ أن مُنعنا من دخول تلك المناطق».
يقطع المتحدث حديثه فجأة، متوسلاً: «أرجوك لا تلتقط لي أي صورة. لا أريد أن يعرف عناصر الحزب أنني أدليت بتصريح ضدهم لأي وسيلة إعلامية». هذا الخوف يعكس حجم الضغط النفسي الذي يعيشه السكان المحليون.
يشير بيده صوب منطقة قريبة قائلاً: «لا يُسمح لنا حتى بالذهاب إلى هناك، على الرغم من أنه قريب جداً، أليس كذلك؟ لكننا لا نستطيع الذهاب لأن الجيش التركي في أي لحظة يستهدف عناصر العمال الكوردستاني المختبئين في مزارعنا التي تركناها».
يختتم المربي حديثه بكلمات مؤثرة: «لقد أصبحت المنطقة سجناً بالنسبة لنا، خاصة في منطقة العمادية ببلدتيها، ديرالوك وشيلادزي. أقسم، يمكنك القول إننا نعيش في سجن هنا».
انخفض إنتاج العسل في محافظة دهوك إلى النصف خلال العامين الماضيين، وفقاً للسكان المحليين. السبب الرئيسي هو الصراع الدائر بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني. واضطر مربو النحل قرب العمادية لنقل خلاياهم من الجبال إلى القرى المجاورة، مما أثر سلباً على جودة الإنتاج وكميته. هذا الوضع لا يهدد صناعة العسل فحسب، بل يمس أيضاً النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات المحلية.
كانت سفوح جبلي گاره ومتين موطناً مثالياً لتربية النحل، لكن القصف المتواصل أجبر المربين على الانتقال إلى المجمعات السكنية في شيلادزي وديرلوك.
يواجه النحالون تحديات كبيرة للحفاظ على مهنتهم وتراثهم، في قصة تجسد تحول حلاوة العسل إلى مرارة بسبب الحرب. هذه الأزمة تبرز الحاجة الملحة لحلول سلمية تضمن أمن المدنيين وتتيح لهم العودة لممارسة أنشطتهم الاقتصادية بحرية.
رياض الحمداني
صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية