داخل سوق اللنكة (سوق شعبي لبيع الملابس المستعملة) في أربيل عاصمة إقليم كوردستان، وفي أزقته الضيّقة، يستقر مقهى «مذاق البن» الذي لم يقتصر على تقديم منتج جديد للزبائن، بل قدّم تجربة ثقافية مميزة، غيّرت ذوق الناس وأضافت إلى صباحاتهم فنجان القهوة المُر، بعد أن اعتادوا لعشرات السنين على طعم الشاي المحلى بالسكر.
مقهى «مذاق البن» قصة مُلهمة للاجئ سوري حقق نجاحاً مذهلاً، وابتكر تجربة جديدة في مجال القهوة، التقت فيها ثقافته السورية مع العديد من الثقافات الأخرى. فكان أول من جلب القهوة إلى كوردستان وأشهر من أعدّها وقدّمها بنكهاتها المختلفة، إنها قصة نجاح اللاجئ السوري عبد الصمد عبد القادر الرحمن.
اللجوء إلى كوردستان
وصل عبد الصمد مع عائلته إلى أربيل في عام 2013، محمّلاً بآلام بلده سوريا التي أشعلتها نيران الحرب، لا يملك شيئاً سوى لغته الكوردية التي حرص والده على تعليمه إياها منذ الصغر، يقول لمجلة «كوردستان بالعربي»: «عندما وصلت إلى أربيل لم أشعر بالوحدة، بل كان إحساسي أنني وسط عائلتي. هذا ما شجعني على المضي قدماً، والتفكير بمشروع خاص يعود علي بالنفع المادي».
على عكس الدول المجاورة التي لجأوا إليها، سهّلت حكومة إقليم كوردستان حياة اللاجئين السوريين، وقدمت لهم المأوى والمساعدات والأغذية، فأصبحوا جزءاً من أحيائها ومحلاتها وأسواقها، ونجحوا بإطلاق العديد من المشاريع الخاصة بهم، ومنهم عبد الصمد، الذي افتتح 15 فرعاً لبيع وتقديم القهوة في أربيل تحت اسم مقهى «مذاق البن».
البدايات
وعن بداياته في هذا المقهى، يقول عبد الصمد: «رحلة اللجوء قاسية ومُضنية، تجوّلتُ كثيراً في شوارع أربيل فارغ الجيوب شارد السبيل، بحثت عن مقهى لأشرب فنجان قهوة، لكن عجزت عن إيجاده، أدركت بعدها أن القهوة ليست جزءاً من ثقافة الكورد في كوردستان، فلمعت الفكرة في رأسي وقررت فتح محل صغير لبيع القهوة».
وأكثر ما يتذكره عبد الصمد عن البدايات أنها كانت ليّنة، يشرح ذلك: «حصلت على ترخيص لافتتاح محل لبيع القهوة بأسرع مما كنت أتوقع، استأجرت محلاً صغيراً بمساعدة مادية من أحد أقاربي، كنت متخوّفاً في البداية أن يرفضوا طلبي لأنني لاجئ، لكنهم رحبوا بي وسهّلوا عملي. لذلك أشكر حكومة إقليم كوردستان على استقبالها الطيّب للاجئين السوريين».
القهوة على طاولة الكورد
بقي عبد الصمد 3 سنوات يجرّب أنواع القهوة ومذاقها، يوزعها مجاناً على الأصدقاء والجيران ليعرف رأيهم في منتجه، يقول: «جربتُ كثيراً إلى أن وصلت إلى نكهة البن الطبيعي الطازج الذي أعجب الجميع. في البداية، لم يكن مذاقه المُر مستحباً لدى العائلات الكوردية التي اعتادت على الشاي الحلو، لكن الآن معظم زبائني من الكورد، أصبح فنجان القهوة جزءاً من حياتهم اليومية».
وسوق اللنكة إحدى أسواق أربيل المميزة، تحتوي على محلات ضخمة لبيع الألبسة الجديدة والمستعملة، منها اللباس الكوردي التقليدي، إضافة إلى محلات بيع الأنتيكة والقطع الفخارية القديمة. واختار عبد الصمد هذه السوق لأنه «نقطة لتلاقي التراث الكوردي مع العديد من الثقافات الأخرى، منها الثقافة التركمانية والعربية وغيرها، وحرصت على أن يكون التراث الكوردي حاضراً في المقهى».
رائحة البن
يمكن للزائر أن يلمس أجواءً دافئة داخل مقهى «مذاق البن»، فالسجاد اليدوي الكوردي يعزز الطابع التقليدي والأصالة في الديكور، بينما تضيف المقاعد الخشبية لمسة من البساطة والراحة، وتعطي قطع الأنتيكات المعلّقة على الجدران جواً فريداً من نوعه. أما رائحة البن المطحون الطازج فهي عنصر أساسي في خلق تجربة حسية متكاملة تجذب الزبائن لتناول قهوتهم الصباحية، مما يجعل زيارتهم للمقهى تجربة متكررة لا تُنسى.
ويبدو مقهى «مذاق البن» كأنه واحة لعشاق القهوة، فهو يقدم «كل أنواع القهوة، من المُرة التقليدية إلى الإسبريسو بنكهة الشوكولاته، وقهوة قزوان الكوردية، إلى جانب خيارات النسكافية والحليب والكابتشينو. وما يميزنا أننا نعد القهوة الطازجة أمام الزبون، وأصبحنا نصدر كميات كبيرة للخارج، إلى أميركا وكندا والدول العربية والأوروبية». يقول عبد الصمد.
نشر ثقافة القهوة
واجه عبد الصمد بعض التحديات، خاصة أنه خلال السنوات الأخيرة امتلأت أربيل بمقاهي القهوة بمختلف أنواعها، لكن ذلك لم يمنعه من التطور. ويقول: «عندما وصلتُ إلى أربيل لم يكن تناول القهوة متداولاً إلا لدى العشائر الكوردية في المناطق النائية، حتى أنني أحضرت البن من لبنان، أما الآن انتشرت القهوة بشكل واسع».
وكان طموح عبد الصمد كبيراً في هذا المجال، وأضاف أن هدفه «كان خلق علامة مميزة في سوق القهوة، وهذا ما شجعني على افتتاح فروع جديدة في مختلف مناطق أربيل، وأردت أن أترك بصمتي الخاصة في مجال صناعة القهوة، ونجحت بتحقيق ذلك رغم كل التحديات».
قهوة كوردستان
وكرد الجميل لكوردستان، يحمل عبد الصمد طموحاً كبيراً لتقديم منتج فريد ومميز للشعب الكوردي. وقال عن رؤيته المستقبلية: «معظم الدول الكبرى لها قهوتها الخاصة التي تعبر عن ثقافة شعوبها، كالقهوة التركية والإيطالية والأميركية. وأنا أطمح لإنشاء معمل كبير للقهوة في كوردستان، يكون الأول من نوعه ويحمل علامة تجارية خاصة سأطلق عليها اسم (كوردستان) لتصبح كوردستان جزءاً من عالم القهوة العالمية».
سهى كامل
صحفية سورية مقيمة في كوردستان